واقع الحركات الاجتماعية بتونس ما بعد الكوفيد كأفق تفكير: من الفضاء العام إلى قوارب الموت

أمين الحسيني

إنّ الدّارس للتاريخ الاحتجاجي بتونس والمتمعّن فيه على الأقلّ منذ الاستقلال إلى اليوم يرى أنّه تاريخ مدّ وجزر، استكانة وسبات فاشتعال من جديد، وأنّه أيضًا قد مرّ على أشكال مختلفة تمزج بين العنف واللاعنف، بين المهيكل والتلقائي، بين الذي حقّق مطالبه (أو جزءًا منها) والذي وُئد سريعًا.

منذ ربيع 2020 عاشت تونس ومعها العالم بأسره على وقع حدث استثنائي تمثّل في تحوّل كوفيد 19 من وباء إلى جائحة، ولم يؤثر هذا الأمر على الجانب الصحّي والاقتصادي ولا على المعطيات الجيوسياسية فقط، بل مسّ الجسد الاجتماعي وجعل من الفعل البشري -في سياقات تتّسم بالتعقيد- يأخذ أشكالًا ومضامين جديدة، ولعلّ من أدوات قياس هذا الفعل ما تُقدّمه الحركات الاجتماعية من مواد دسمة يجب على الدرس السوسيولوجي أن يلفت النظر إليها ويبحث فيها.

قد يكون من الصعب في هذا الوقت الحديث عن تحليل آثار الجائحة واستشراف انعكاساتها على الواقع الاجتماعي وتحديدًا على الحركات الاجتماعية، إذ أنّ الكثير منها ما يزال قيد التشكّل، وقد يتراءى لنا في المدى المتوسّط أو البعيد. ولذلك ارتأينا أن يكون هذا المقال مساحةً للتفكّر وإنتاج افتراضات حول ما يمكن أن نستشفه عن طريق الملاحظة.

تونس تعيش أزمة غير مسبوقة“، على هذه الكلمات أجمع العديد من المحلّلين والسياسيين وحتى خطاب النظام السياسي القائم نفسه. فعلاوة على الآثار المباشرة التي خلّفها الوباء على غرار الشلل الاقتصادي القائم وتعطّل الحركة التجارية وعدم صمود البنية التحتيّة للقطاع الصحّي أمام ارتفاع أعداد المصابين وتردّي الأوضاع الاجتماعية نظرًا لارتفاع أعداد العاطلين عن العمل خصوصًا في صفوف أولئك الذين ينتزعون خبزهم اليومي من العربات المتنقّلة والأرصفة والمقاهي، كان المشهد السياسي متذبذبًا بعض الشيء، وقدّ تمّ اتّخاذ عديد القرارات التي وُصفت بالارتجالية في منابر الإعلام، وربما يعود هذا الأمر إلى غياب نموذج توافقي بين السلطتين التنفيذيّة والتشريعيّة، والذي أدّى إلى إحداث توتّرات بلغت في بعض المحطّات حدّ القطيعة بينهما، وتحديدًا منذ اعتلاء المرشّح المستقل قيس سعيد كرسيَ الحكم في أكتوبر/ تشرين الأوّل 2019.

خلال الفترة الأولى للحجر الصحّي الشامل، سعت السلطة التنفيذية إلى الانفراد بمركزية أخذ القرار، بعد أنّ برّرت ذلك أمام السلطة التشريعية بكون نسق اتّخاذ القرارات داخل البرلمان يتّسم بالبطء نظرًا للإجراءات البيروقراطية وهو ما يُعتبر معرقلًا لإستراتيجية الدولة في حربها ضدّ الوباء التي تتطلب خطوات فورية، وقد نجحت إلى حدّ ما في ذلك مستغلّةً مساندة شريحة واسعة من الشعب لهذا الخيار. 

بناءً على مقولة “قطارٌ قد يُخفي قطارًا آخرَ“، فإنّ سَحْبُ البساط لم يكن من تحت أقدام البرلمان وحسب، بل وجميع المتدخلين في الشأن العام، إذ انصبّ خطاب السلطة حول “حالة الطوارئ”، رغم أنّ تفعيله كان بشكل شبه دائم منذ 2011، التي تُرجمت إلى حجر شامل يُمنع بموجبه تنقّل الأشخاص والسيارات وإغلاق المحلّات التجارية وجميع المؤسسات ذات الطابع الترفيهي، علاوة على حظر التجمعات بما في ذلك المظاهرات.

لم يعتمد النظام السياسي على المقاربة الأمنيّة فقط في تلك الفترة، بل وسخّر هيمنته الرمزية/ الناعمة، من أجل تبرير استحواذه على الفضاء العام، وبذلك زجّ بأيّ حركة اجتماعية في خندق التجريم، خصوصًا وأنّه في تلك الفترة سعى إلى تمرير خطاب مفاده أنّ الدولة لم تدخّر جهدًا وقدّمت العديد من التضحيات في شكل إجراءات استثنائية لصالح المواطن رغم كونها مثّلت ضربة موجعة لها. وعلى هذا الأساس يكون كلّ فعل احتجاجي موصومًا بكونه ضدّ المصلحة العامة وإطارًا مؤاتيًا لتفشّي الوباء. وقد أطلق باري بوزان أحد روّاد مدرسة كوبنهاغن على هذه الإستراتيجية مصطلح “الأمننة” أي إضفاء الطابع الأمني على مجال ما يتمّ عبر عملية خطابيّة لغويّة تعمل على تبرير شرعية هذه المقاربة بوجود ما يُهدّد البقاء المادي أو المعنوي.

بناءً على ما سبق الإشارة إليه وجدت الحركات الاجتماعية -بوصفها جهد جماعي لمجموعة معينة، انتابها عدم الرضا من النمط السائد، الموظّف من أجل التغيير وتأسيس نسق جديد وباعتبارها تنظيمات عقلانية لها أهدافها وإستراتيجيتها في تعبئة مواردها وحشد مناصرين لها- نفسها وجهًا لوجه مع جماهير تستنكر على نشطائها استهتارهم بالوضع الوبائي وتعتبر أنّ قيام حركة في سياق قوّة قاهرة ذات طابع صحّي هو تعبير عن تغليبٍ لمصلحة مجموعة ما على حساب المصلحة العامة.

هذا الأمر جعل هذه الحركات في موقع لا تُحسد عليه بين المطرقة والسندان، إذ ليس من السهل التعامل مع حالة من الذهان الجماعي التي تملّكت الجماهير، أو محاولة إقناعها بمشروعية/ضرورة وجودها، أي الحركات، في سياق يُنبئ باحتمالية بلوغ البلاد مرحلة انسدادٍ تاريخيِ.    

في مستوى آخر، لم تكشف أزمة الكوفيد تردّي الأوضاع الاقتصادية وضعف المنوال التنموي في مجابهة الظروف الاستثنائية فقط، بل كانت بمثابة لحظة تاريخية أثبتت هشاشة الحقوق العامة والفرديّة، إذ ذُكر في تقرير صادر عن المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب حول ما شهده شهر يناير/كانون الثاني 2021 من انتهاكات، أنّ عدد الموقوفين خلال ذلك الشهر حسب إحصائيات تقريبية قد ناهز 1500 موقوفًا من بينهم ما يُقارب 500 طفلاً، كما وقع أواسط نفس الشهر انتهاك الحقّ في التظاهر وغلق المنافذ والشوارع وعسكرتها بتعزيزات أمنية كبيرة وبمعدّات ومدرّعات ضخمة بجانب مجلس النوّاب. وفي شهر مارس/آذار من نفس السنة وقّع عدد من المنظمات والجمعيات على بيان يُندّد بالاحتجاز التعسّفيّ الذي طال ناشطين سياسيين إثر مشاركتهم في احتجاجات.

رغم التحديّات المستجدّة التي واجهتها الحركات الاجتماعية على غرار المقاربة الأمنية للنظام القائم والمتمثلة في فرض سيطرته على الفضاء العام، وصعوبة تعبئة الموارد في ظروف استثنائية نظرًا إلى تواجد إطار إدراكي وتَمثُّلٍ جمعيٍّ يعتبر الفعل الاحتجاجي في سياق وبائي إجرامًا في حقّ بقيّة الشعب، إلاّ أنّها سعت للتأقلم معها، أي التحديّات، عبر التركيز على شكلين أو نمطين احتجاجيين.

 أولهما اعتماد اتّجاه يمكن وصفه بأنّه “تصعيدي”، بمعنى أنّه لا يعتمد التدرّج في مفاوضاته مع السلطة، بل ينخرط في عملية تصعيديّة قصوى وذلك عبر إجبار السلطة على الاستجابة لمطالبه باعتماد آلية تعطيل الإنتاج وهو ما مثّل ضربةً موجعةً للدولةً، ونجد هذا المثال في تجربتيْ احتجاج الكامور والذي استوحى اسمه من حقل نفط في ولاية تطاوين في الجنوب التونسي، واحتجاج الصمود2 بولاية قابس والذي أغلق المحتجون فيه مداخل المنطقة الصناعية.

أمّا الشكل الثاني فهو يعتمد على توجّه قطاعي أو فئوي، إذ لا يلتجئ القائمون به إلى النزول إلى الشوارع واقتحام الفضاء العام للتعريف بقضيتهم، بل يعتمد على ورقات ضغط أخرى كالشارة الحمراء والإضراب عن العمل وأي فعل من شأنه تعطيل العمل بالمرافق العموميّة، ولعلّ الجدير بالذكر في هذا المستوى أنّ هنالك قطاعات لا تملك رصيدًا احتجاجيًا في السّابق لكنّها انخرطت في هذا المسار على غرار إضراب قطاع القضاة في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من سنة 2020 مطالبين بالزّيادة في الأجور وضمان حقّ العلاج وإجراء إصلاحات هيكلية في القطاع.

كما خاض الأطبّاء عدّة معارك ضدّ سلطة الإشراف، أهمّها الإضراب العام يوم 8 ديسمبر/كانون الأول 2020 الذي تمّ إقراره إثر وفاة زميلهم في مصعد معطّب في المستشفى الجهوي بجندوبة، وقد تمثّلت مطالبهم في محاسبة المسؤولين عن الإهمال الذي وقع وتحسين ظروف العمل. كما قام الدكاترة الباحثون بإعلان اعتصام مفتوح يوم 7 جويلية/تموز 2020 في مقر وزارة التعليم العالي من أجل إيجاد حلول فعليّة أمام تردّي أوضاعهم المعيشية وعدم قبولهم في سوق الشغل.     

هذا دون أن نتغاضى عن توظيف الحركات الاجتماعية لمواقع التواصل الاجتماعي واعتبارها بديلًا للشارع من أجل التعريف بقضيتها ومشاركة أهدافها مع الجماهير من أجل توسيع قاعدة المناصرين من أجل إرغام السلطة على تلبية مطالبها، وعلى سبيل الذكر لا الحصر نُشير إلى ما قام به ناشطون في المجتمع المدني إذ وظّفوا تطبيق الكلوب هاوس، والذي يُمكّن مستخدميه من إجراء دردشة صوتيّة ضمن مجموعات بإمكانها أن تضمّ عدداً كبيراً من المشاركين، أثناء فترة الحجر الصحّي لمناقشة كلّ ما يطرأ على السّاحة السياسة وقد تمّكنوا في العديد من المناسبات من دعوة وجوه سياسية حتّى من الأحزاب الكبرى.

لئن عاد هذا الأمر بفائدة على هذه الحركات؛ إذ أوجدت إطارًا جديدًا من أجل توليد السخط وتسييسه ومن ثمّ إخراجه إلى حيّز الوجود، فإنّه وفي الآن نفسه قد ساهم في ترسيخ “النضال المنزلي“، مما يعني أنّ الاقتصار على الاحتجاج من داخل الفضاء الخاص قد يولّد لدى الفاعلين شعورًا بالرضا وبالتّالي يكون بديلاً عن النزول إلى الفضاء العام. فالاستعدادات التي يُنشئها الأفراد للتأقلم مع السّياقات القاهرة قد تتحوّل بمرور الوقت إلى بنيات ناظمة للسلوك ومنتظمة له حتّى وإن اختفى ذاك السياق.

على هذا الأساس تكون الحركات الاجتماعية قد تراجعت إلى الوراء في الهيمنة على الفضاء العام، لكونها أوجدت بدائل أخرى بغضّ النظر عن مدى نجاعتها أو قدرتها على التغيير.

رغم محاولة الحركات الاجتماعية إعادة إنتاج/تشكيل ذاتها بما يتماشى والسياق الجديد، إلاّ أنّه حسب الملاحظ فإنّ التحديّات المفروضة عليها جعلت مجال فعلها يظلّ محدودًا، ورغم ذلك فإنّ استمرارية تواجدها، بغضّ النظر عن نجاحها في تحقيق مطالبها أو جزءًا منها أو فشلها، يعكس استمرار تواجد ظروف التهميش الاقتصادي والاجتماعي والحقوقي.

لا يمكننا الجزم أنّ المزاج العام للفاعلين الاجتماعيين في الحقل الاحتجاجي تملّكه الإحباط والاستنزاف وتكوّن لديهم تطبّع جديد تأسّس على اعتقاد ضمني أو غير معلن بأنّ كلّ فعل احتجاجي في الفضاء العام حتّى وإن لم يبقَ ما يُبرّره في الوقت الرّاهن نظرًا إلى رفع الحظر عن التجمّعات، هو بمثابة تغليب للمصالح الفئويّة على حساب المصلحة العامة، وكما سبق وأشرنا إلى ذلك فإنّه من الصعب تحديد أوجهه، أي هذا التطبّع، باعتباره يترسخ بشكل غير واعٍ. هذا وقد لمسنا خلال الاحتجاجات التي شهدتها البلاد في مستهل سنة 2021 وحالة الاستهجان التي قُوبلت بها، طغيان مفهوم “المواطن المستقر” الذي نحته المفكر الفرنسي اتييان دو لابواسيه في كتابه الشهير “مقالة في العبوديّة الطوعيّة”، وهو يقصد بذلك أنّ هنالك صنفاً من البشر يحتكمون إلى بوصلة واحدة والمتمثّلة في كيفيّة تحقيق استمراريتهم بتحصيل قوت يومهم لا غير. ولذلك فإنّهم يرَوْن أنّ الشأن السّياسي لا يخصّهم ولا يعنيهم، بل يعتبرون في كلّ حركة احتجاجيّة تهديداً للاستقرار والأمن بجميع أوجهه.

كما لا يمكننا الجزم أيضًا أنّ نسبيّة نجاح الحركات الاجتماعية في مواجهة التحديّات والإكراهات التي فرضها عليها السياق العام واعتماد مقولة “لا جديد تحت الشمس” جعل أفرادها يولون ظهورهم للخلاص الجماعي، والذي قد يتحقّق بالأشكال التنظيميّة التي جمعتهم، ويتّجهون نحو الخلاص الفردي والمتمثل بالنسبة إلى شريحة منهم في الهجرة غير النظامية، والتي لم يتوقف نزيفها رغم الأخبار المتداولة عن سوء المعاملة في مراكز الإيواء في دول الاستقبال وإمكانية الترحيل، بالإضافة إلى وصول التيّارات اليمينية لسدّة الحكم في بعض هذه الدول والتي تعتبر هؤلاء المهاجرين يُمثّلون تهديداً للكيان الأوروبي ممّا يُنبئ بإمكانية إنتاج/إعادة إنتاج سياسات عنصرية تجاه المهاجرين واللاجئين.   

من زاوية أخرى، وبالنأي عن السرديات الكلاسيكية حول الهجرة غير النظاميّة التي تربطها بالأوضاع الاقتصادية أو البحث عن الرفاهية وتحقيق حلم العيش وفق النمط الأوروبي، فإن الانخراط في هذا المسار قد يُمثّل فعلاً احتجاجياً جديدًا، فالرحيل هنا هو تعبير عن رفض لسياسات الدولة والواقع القائم عموماً.    

إنّ فرادة موضوع كهذا لا تتعلق فقط بقلّة الدّراسات التي تناولته أو عدم تعاطيها معه بالعمق الكّافي، بل كذلك في القيمة المضافة التي قد يُحقّقها، فليس من السهل أن تقطع حركة اجتماعيّة ما مع ما هو مألوف لتنتج أشكالًا ومضامينَ وأفعالًا جديدةً نابعة عن فلسفة معيّنة محاولةً التأقلم مع سياق وبائي فرض نفسه، ليجد جزء منها، على الأقل، نفسه بعد ذلك مستنزفَ الموارد بعد أنّ اختار فاعلوه الانطلاق نحو الضفّة الأخرى للمتوسّط هربًا من واقع قد يعتبرونه هشًّا على جميع الأصعدة وغير قابل للتحريك. 


عن الكاتب

أمين الحسيني، باحث سوسيولوجي

Leave a Reply

Discover more from The Asfari Institute for Civil Society and Citizenship

Subscribe now to keep reading and get access to the full archive.

Continue reading