الجائحة والنسيان والتاريخ

مصطفى عبد الظاهر

لقد نسينا الجائحة! ونسينا أن أغلبنا قد اضطر لقضاء أكثر من عام حبيس منزله، وما عدنا نرى شوارعنا العامة مغطاة بالكمامات وأقنعة الحماية وزخات الكحول والمطهرات الموضعية، ونسينا حتى من فقدناهم خلال الأزمة الذين غيبهم الموت، والأكثر منهم الذين انزووا في حالة اكتئاب ما بعد مرضية، ونسينا أن بعضنا كان يفر من أمه وأبيه خشية أن يصُاب بعدوى.

لقد نزلت علينا جائحة الكوفيد ضيفًا ثقيلًا، ولأكثر من عامين شكل الحديث عن الفيروسات وطرق انتقال العدوى وتحور الكائنات الحية وقدرات الجهاز المناعي البشري وفتوحات العلم محورًا لأحاديثنا العادية وحياتنا اليومية. ولقد نسينا أيضًا الأصعب؛ أن أزمة الجائحة قد شكلت انزياحًا في طرق عيشنا وممارستنا لحياتنا اليومية، وربما سننسى في المستقبل، كما نسي الذين سبقونا، الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تسبب فيها انتشار الوباء وكيف انخفضت قدرة اقتصادنا العالمي على الإنتاج والتشغيل، وكيف أن العمل من المنزل والمداومة في أكثر من وظيفة قد أصبحا سمة العمل الرئيسية في عصرنا، ولهاثنا المستمر خلف فرص التوظيف التي قد تمنحنا أقل ضمان اجتماعي وطبي قد يمكننا من مواجهة أية أوبئة محتملة قادمة! ونسينا أيضًا وجود احتمالية “عودة الوباء لذروته” وعودة تحذيرات منظمة الصحة العالمية للسيطرة على شريط الأخبار العاجلة، أو حتى احتمالية ظهور وباء جديد، وقد شكلت “أفق إمكان” جديد للظرف الأمني البوليسي وأدوات سيطرة الدولة في عصرنا.

لطالما كانت الكوارث مادة جيدة مواتية لفلسفات التاريخ والسرديات الكبرى. لقد تأسس وعينا بعصرنا الحديث على عقيدة التقدم التاريخي، لكن أزمة الحرب العالمية الأولى والثانية قد شكلت تيارًا، تنويري مضاد، داخل الفكر الغربي، يرفع رايات “الاضمحلال والأفول” وينذر بموت الحضارة، ويعيد تأويل الأفكار الفلسفية القديمة حول الزمان الدائري، ودورات صعود وانهيار الحضارات، كبديل عن التاريخ الخطيّ التقدمي. لقد ذهبت هذه الرؤى، على وقع الكارثة، أن حلم التقدم قد انهار، وأنه لم يكن أكثر من أسطورة، وأن ما كشفته كارثة الحرب العالمية الأولى والثانية حول “الطبيعة البشرية” الوحشية يعني أننا قد وقعنا في أسر وهم قد أذاعته فلسفات التنوير التي وعدتنا بمستقبل دائب التطور على صورة نموذج “العناية الإلهية أو “عقيدة الخلاص المسيحية”. لقد أدت الكارثة ههنا، في حالة الحربين العالميتين، إلى انزياح حقيقي في الحالة الإنسانية العامة؛ ما تمثل في إعادة ترتيب تقسيم العمل الدولي، وإعادة بناء دول قديمة ونهاية دول وبزوغ فجر قوى عالمية. لكن هذا الانزياح قد تبعه تغير كبير في قدرتنا على فهم عالمنا، وفهمنا لتاريخنا عبر آمالنا وتطلعاتنا للمستقبل، وتعرض السرديات الكبرى لنقد كبير.

الأمر نفسه الذي حدث بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وهجمات الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة الأمريكية. فقد أخذت أطروحة “صراع الحضارات” مكان الزمن الخطي والدائري مجتمعين. مرة أخرى، انزياح كبير في الواقع، يتبعه انزياح كبير في السرد التاريخي، للأفضل أو للأسوء. لقد تضافر انزياح بداية القرن وفكره معًا، في آنٍ واحد، لإنتاج سياسات بوليسية معسكرة، تخوض حروبًا داخل الدول تحت حجة الحفاظ على الأمن العام، عبر تعميم المراقبة الشاملة وسياسات الهوية العرقية، والوحشية ضد المعارضة، وتخوض على حدودها حربًا لا ترتكز على تدمير عدو ما، بل تركزت بالأحرى على الاختراق البيولوجي والإقليمي المنسوب لأطراف أخرى لا نراها عادة؛ بل يجري تخويفنا منها باستمرار.

هذا هو نفسه الوضع المستمر الآن، بشدة أكبر بعد أن أصبحت الإجراءات الاستثنائية تعريفًا للحالة الطبيعية ردًا على “أخطار” الأوبئة. الأوبئة أيضًا أعداء لا نراها، ويجري تخويفنا منها بدأب لا يكل، لتطبيع الحالة الأمنية الاستثنائية التي تصب بالتأكيد في مصلحة كل الأجهزة السلطوية من مؤسسات الدولة. لكن الأمر المحوري في “نسياننا” للجائحة وتبعاتها، ليس إجراءات الدولة، بالرغم من أنها واقعة لا مراء، بل أن تأولينا الثقافي للجائحة لم يتناسب مع أي فكرة نظرية كانت متاحة أو معممة، ولم تستطع مقولات أي سردية كبرى على استيعابه واستخدامه لصالحها.

لطالما كان لدى السرديات الكبرى قدرات تضمينية وتأويلية كبرى تمكنها من تفسير الأحداث العالمية أو القومية الخارجة عن إرادتها ضمن مصلحتها ورؤيتها لمسار التاريخ. لكن الأمر ليس على هذا الحال بالنسبة للأوبئة. فكما حدث مع الحالة الأقدم؛ وباء الإنفلوانزا في 1918 الذي اجتاح أوروبا، كان الحل الأساسي هو “نسيانه”؛ صحيح أن مراكز السلطة قد عملت على إخفائه ووصفه بأنه مجرد إنفلوانزا “إسبانية” إذ كانت أغلب دول أوروبا مشغولة في مهالك الحرب العالمية الأولى، ولم يكن من مصلحتها إيلاء قدر كبير من الاهتمام لمخاوف المجتمعات من الأوبئة آنذاك.

هذا نفسه ما حدث مع كوفيد لكن في صورة أكثر قتامة؛ لقد جاء الوباء في عصر بلغ فيه تخوف الدول وسلطاتها من المجتمعات ذروته، ومع وصول ظاهرة الكوفيد كانت الإجراءات الأمنية المضادة للسياسة قد بلغت ذروتها أيضًا، في المجتمعات الأوروبية وغيرها على السواء، ومع أول نذر من الإجراءات الاحترازية المنوط بها التصدي إلى كوفيد حذرنا الفيلسوف الإيطالي ماسيمو دي كاروليس من أن إجراءات الحظر والتباعد الاجتماعي مثيرة للقلق، وأنها “تحل الرابطة الاجتماعية وتفرض نظاماً من العزلة وسيطرة الشرطة على جميع السكان، وهو تذكير بالتجارب الأكثر ظلمة لماضينا السياسي الحديث“.

ويتابع دي كاروليس أن “النقطة الحاسمة هي تبيين ما إذا كانت الإجراءات مؤقتة أم أننا نشهد بدلاً من ذلك اختبارًا عامًا لما يمكن أن يصبح حال الحياة العادية في مجتمعات المستقبل القريب”. ويبرر الأكاديمي الإيطالي شكوكهبحقيقة أن “تدمير الروابط الاجتماعية والسيطرة باسم “الصحة العامة” لم يأتيا بالتأكيد مع الفيروس المستجد، فلقرن على الأقل، تميل الآليات الاجتماعية الحديثة إلى إنشاء مجتمع قائم على العزلة، حيث يُنظر إلى عفوية الحياة الاجتماعية على أنها عقبة أو حتى تهديد لاستقرار النظام”.

لقد حذرنا كاروليس أيضًا من أنه “بينما كان نظام الإنتاج في الماضي لا يعمل دون تقارب الناس واختلاطهم وعمل الأصوات والأيدي معًا، لكن اليوم يمكن الفصل بين الناس وعزلهم بسبب التكنولوجيا، مؤكدًا في الوقت نفسه أن التغيرات الاجتماعية ليست نتاج مؤامرة ما وإنما محصلة لعوامل وقوى مختلفة” كما حذرنا مواطنه الفيلسوف جورجيو أجامبن من أن “الخطر المشترك لا يوحّد الناس وإنما يعميهم ويعزلهم عن بعضهم البعض، إذ ينظر للبشر حاليًا على أنهم مصدر عدوى وخطر محتمل “وأن “الخوف من فقدان الحياة يسهل أن ينبني عليه استبداد وحشي”.

لكن بالإضافة للإجراءات الأمنية والتطبيع معها وتعميمها، لم تستطع أجهزتنا المفاهيمية وسردياتنا الكبرى، التي لطالما رأت في الكوارث إشارات ميتافيزيقية على تماسكها الذاتي، أن تستوعب مرحلة الوباء، الذي بدى على أنه من المستحيل أن ينسب إلى صالح فئة دون فئة، أو التأكيد على صحة موقف دون طرف، وهو الأمر المركزي بالنسبة للسرديات الكبرى ولا يمكن أن تحيا إلا بوجوده؛ قدرتها على الاستعداء والتخطئة تجاه الآخر في مقابل الاستيعاب والتأويل اللذان تمارسهما على ذاتها.

لقد عشنا مرحلة من الانهيار الواضح والتفكك الصريح لجميع القناعات والمعتقدات لدرجة أننا قررنا أنه بإمكاننا التضحية بكل شيء، بما فيها الحرية والاجتماع الإنساني، في مقابل النجاة من الذعر والتخويف المستمرين. ولدرجة أنه ما أن خفتت أصوات التخويف قررنا أن ننسى تمامًا تلك المرحلة من حياتنا بكل مآسيها وما ترتب عليها من تدابير، لأنها، ببساطة، لا تتوافق مع رؤانا، وحتى وإن استدعى الأمر التضحية بكل رؤية للتاريخ، ستبقى تلك المرحلة من مهمة مؤرخ المستقبل الذي سيتوجب عليه أن يبدأ في تفكيكها وتأريخ تبعاتها دون سابقة تذكر. 


عن الكاتب

مصطفى عبد الظاهر، باحث مستقل ومدير وحدة العدالة الجنائية بالمفوضية المصرية للحقوق والحريات

Leave a Reply

Discover more from The Asfari Institute for Civil Society and Citizenship

Subscribe now to keep reading and get access to the full archive.

Continue reading