محمد جاد
تحت ضغط أزمة مالية متصاعدة، طلب لبنان من صندوق النقد الدولي في فبراير المساعدة الفنية[1] من صندوق النقد الدولي[2]، خاصة في ظل تفاقم المديونية الخارجية واقتراب استحقاق سداد سندات دولية في التاسع من مارس المقبل.
يقترب لبنان من الدخول في المسار الذي سارت به العديد من البلدان العربية بعد ثورات الربيع العربي، حيث تعرضت تلك البلدان لأزمات مالية واهتزاز في قيمة العملة تحت وطأة عدم الاستقرار السياسي، كما يعكس التقرير الأخير لصندوق النقد الدولي عن لبنان[3]، الذي نُشر في 2019، رؤيته لتفاقم الأزمة المالية اللبنانية، وجاءت طروحات الصندوق لخروج لبنان من أزمته شديدة التشابه لما طرحه على مصر وتونس خلال السنوات الأخيرة، والتي يمكن أن نلخصها في أنها تتمحور حول مجموعة من الإجراءات التقشفية ليس وراءها أي هدف غير جعل البلد سوقا جيدا للديون ومعرضا للتعثر، مع القليل من النصائح حول الإنفاق الاجتماعي ليس وراءها رؤية تنموية متماسكة، ولكنها أقرب للمسكنات التي تمنع الانفجار.
فقد ركز الصندوق على ارتفاع عجز الموازنة، الذي بلغ 11% من الناتج الإجمالي في 2018، ووصول الدين العام إلى 151% من الناتج، في ظل ارتفاع قيمة مدفوعات فوائد الديون ومحدودية الإيرادات الضريبية بالنسبة للالتزامات القائمة على البلاد.
وفي هذا السياق يقترح الصندوق رؤية تستهدف تحقيق فائض أولي يتراوح بين 4 إلى 5% من الناتج على المدى المتوسط، لتحقيق عدد من الأهداف من أبرزها تخفيض الدين العام.
والميزان المالي الأولي الذي يتحدث عنه الصندوق هو الفرق بين نفقات البلاد وإيراداتها بعد استبعاد نفقات الديون، والفائض الذي يتطلع الصندوق لتحقيقه في هذا الميزان بلبنان يتطلب تقشفا قويا بالنظر إلى أن البلاد سجلت عجزا أوليا في 2018 بنحو 1.4%.
التركيز على الميزان الأولي للموازنة واحدة من ألاعيب الخطاب الإعلامي للصندوق، فهو يوحي أن البلاد استطاعت أن ترشد من نفقاتها لدرجة أن الإيرادات زادت عن المصروفات، ولكن الواقع أن هذا الترشيد يخص النفقات المتعلقة بحياة المواطنين فقط، أما النفقات المتعلقة بالمستثمرين في أسواق الدين فيتم تجنيبها في خطاب الصندوق، كما لو كانت عنصرا هامشيا وليست ظاهرة اقتصادية مزعجة.
لقد دخلت مصر في برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي أملاه الصندوق في 2016 والدين الخارجي للبلاد 55.7 مليار دولار، وقد ارتفع هذا الدين بنهاية العام المالي الماضي إلى 108.6 مليار دولار.[4]
هذه القفزة في الدين الخارجي جاءت مدفوعة بتوسع الأجانب في الاستثمار في الديون المصرية، وذلك بدعم من حضور سياسات الصندوق في مصر، فالصندوق يضمن أن السياسات المالية في مصر ستجعل منها زبونا جيدا للديون.
وميزة الديون في أعين الحكومات أنها توفر تدفقات نقدية تحل المشاكل المالية العاجلة بدون مسائلة سياسية، مثل التي تستدعيها ايرادات الضرائب، وبدون الاحتياج لحل مشكلات عويصة مثل التي تعطل إيرادات الاستثمار الأجنبي المباشر.
والضمانات التي يقدمها الصندوق للدائنين هي أن الدولة لن تتأخر عن التقشف واتخاذ الإجراءات المؤلمة اجتماعيا حتى تسدد ديونها في الموعد المطلوب، فهي لن تهتم بالالتزام بالاستحقاقات الدستورية الخاصة بالإنفاق على الصحة والتعليم[5] وستسمح بعملية تحرير سريعة لأسعار الطاقة وستضغط الإنفاق على الأجور الحكومية في أوقات ارتفاع التضخم، وستتوسع في ضرائب القيمة المضافة، كل ذلك في غياب شبكة الحماية الاجتماعية الكافية.. الهدف الأهم على الإطلاق هو أن تحقق فائضا أوليا في الموازنة العامة.
منذ العام المالي 2014-2015 بدأت مصر في برنامج لتحرير أسعار الوقود والكهرباء شمل أنواع من الوقود تمس حياة الطبقات الدنيا، مثل السولار الذي يُسير وسائل النقل الرخيص والذي زادت منذ بدأ هذا البرنامج التحرري بأكثر من 500%[6] .
كذلك حررت الدولة أسعار الكهرباء على الشرائح المختلفة من الاستهلاك، وعملت في 2017 على وضع شروط للانضمام لمنظومة الدعم الغذائي لا تسمح لمن يزيد دخلهم الشهري عن حدود معينة على الحصول على هذا الدعم. [7]
وقبل فترة قصيرة من إبرام اتفاق القرض مع الصندوق، نوفمبر 6201، أصدرت الدولة قانونا جديدا لضرائب الاستهلاك، رفع السعر العام لضريبة القيمة المضافة من 10% إلى 14%، وقانونا جديدا للخدمة المدنية كان هدفه الرئيسي كبح نمو موازنة الأجور الحكومية.
وإزاء هذه الإجراءات التقشفية طبقت الدولة عددا من الإجراءات الاستثنائية لزيادة الأجور الحكومية، ليصل الحد الأدنى للأجور في هذا القطاع إلى 2000 جنيه، وهي زيادة محدودة للتعويض عن التضخم المرتفع في تلك الفترة، ولم تقدر الدولة على إصدار قرار لتحسين الحد الأدنى لأجور العاملين بالقطاع الخاص والذين يمثلون الشريحة الأوسع من العاملين.[8]
وواجهت زيادة معدلات الفقر برفع الحد الأدنى للمعاشات بدءا من 2016 بالنص على حد أدنى للمعاش وتمت زيادته بشكل متدرج خلال السنوات التالية،[9] لكن هذا الحد الأدنى لا يصل للعاملين في القطاع الغير رسمي المحرومين من أي حماية تأمينية، والذين زادت معدلاتهم بشكل مضطرد خلال سنوات “الإصلاح الاقتصادي”.[10]
ورحب الصندوق بتوسع الدولة منذ 2014 في تقديم مساعدات نقدية مباشرة للفئات الأقل دخلا، وهي التجربة التي خاضها الأردن بالتزامن مع رفع أسعار الطاقة في 2012[11]، لكن البيانات الرسمية تخبرنا أن أكثر من ثلث المصريين أصبح تحت خط الفقر، [12] مما يعكس صحة تقديرات منظمات حقوقية بأن الأموال وحدها لم تكن كافية للحماية من سياسات الصندوق،[13] يكفي أن نشير إلى أن أحد هذه المساعدات المعروف باسم معاش تكافل، الموجه للمسنين والمعاقين، تبلغ قيمته الحالية 450 جنيه شهريا، وهو ما يقل عن المبلغ الكافي للبقاء فوق مستوى الفقر وفقا للتقديرات الرسمية.
وأبرمت تونس اتفاق قرض مع صندوق النقد في نفس العام الذي وقعت فيه مصر اتفاقها على الاقتراض من هذه المؤسسة، 2016.
وتتشابه الإجراءات التقشفية التي تمت تحت وصاية المؤسسة الدولية في تونس مع ما جرى في مصر، والتي تشمل زيادات متتالية في أسعار الوقود وتخفيض الدعم على الكهرباء والغاز، بجانب تقليص أعداد المنضمين الجدد للوظائف الحكومية وخروج نحو 6600 عامل من وظائف الخدمة المدنية، والتوسع في تطبيق الضرائب غير المباشرة تحت موازنة 2018[14].هذا التقشف تم مع قدر محدود من الاستغلال للوفورات المحققة في التوسع في الإنفاق الاجتماعي.
ترويض الإنفاق العام في تونس كان لتحقيق أهداف مشابهة لما جرى في مصر، وهو تهيئة البلاد لكي تصبح زبونا جيدا للدائنين، فبحسب المرصد التونسي للاقتصاد انخفضت مساهمة العجز الأولي للموازنة العامة في الدين العام خلال 2018 بفضل سياسات الصندوق التقشفية، لكن الدين في مجمله زاد بسبب التوسع في الإنفاق على فوائد الديون الي جانب أثر تخفيض قيمة العملة الذي تم بنصيحة من الصندوق أيضا.
وعلى نفس الخطى تقريبا تسير نصائح الصندوق للبنان، فهو يتحدث عن زيادة ضرائب القيمة المضافة، التي تقع حاليا عند 11% ويرى أنه معدل منخفض نسبيا وتقليل دعم الكهرباء مع زيادة التعريفة، مع توجيه نسبة هامشية للمساعدات الموجهة للفقراء.
وقد تنطوي رؤية الصندوق على بعض أوجه العدالة، فهو أحيانا ما يكون مرنا ويغير نصائحه بين بلد وآخر وفقا لنظرته للوضع الداخلي، لكن الحالة اللبنانية تعكس مقاومة من مراكز النفوذ حتى لنصائح الصندوق العادلة.
فقد واجه اقتراح تطبيق زيادة مؤقتة في الضريبة على أرباح البنوك التجارية مقاومة داخلية عنيفة[15]، بالرغم من أن الصندوق أوصى بجعلها زيادة دائمة، يشبه هذا الوضع مقاومة سوق المال في مصر لتطبيق ضريبة على تعاملات الأسهم التي نصح بها الصندوق أكثر من مرة.
الإصلاح الحقيقي لن يكون على يد صندوق النقد، فقد خاضت مصر تجربة السير وراء نصائحه مع اتفاق التثبيت والتكيف الهيكلي في بداية التسعينات وخرجت بالعديد من المشاكل الهيكلية التي قادت إلى أزمتها المالية التي بدأت في 2013 وتفاقمت في 2016، لتعود البلاد لخوض العلاج على يد نفس الطبيب القديم.
صندوق النقد يتحدث في تقاريره عن ضرورة توفير نمو اقتصادي مستدام وشامل تصل ثماره لأيادي الغالبية من الشعب، لكنه لا يضغط بقوة على الحكومات لتحقيق هذه الأهداف الطموحة وإنما يدفعها للحلول السهلة والسريعة المتمثلة في إجراءات تقشفية عاجلة والتوسع في فرض ضرائب غير مباشرة.
لذا يحتاج لبنان قبل خوض تجربة جديدة مع الصندوق أن ينظر لأحوال جيرانه العرب، هذا ليس رأي كاتب المقال فقط، وإنما أيضا رأي مجلة يمينية عريقة مثل ” الإيكونوميست ” في تعليقها على التقارب الأخير بين هذا البلد ومؤسسة بريتون وودز.
حيث تقول المجلة إنه “من أجل الالتزام بمتطلبات القرض عومت مصر عملتها، والتي فقدت بسرعة نصف قيمتها، وفرضت ضريبة قيمة مضافة بـ 13% ارتفعت لاحقا إلى 14% وخفضت دعم الوقود، وخفض الأردن دعم الوقود في 2012 للتأهل لقرض صندوق النقد مما تسبب في رفع بعض الأسعار بـ 50% في ليلة. وزادت تونس من الضرائب وسمحت بتخفيض الدينار. هذه التغييرات التي جاءت العديد منها متأخرة ساعدت على الحد من العجز. (ولكن) ولا واحدة من هذه البلاد تبدو أنها تخرج من أزمتها، الفقر يزيد والبطالة تظل مرتفعة”.[16]
لقد اقترن برنامج الصندوق في مصر بارتفاع معدلات النمو الاقتصادي لمعدلات تبدو أقرب لما كانت عليه قبل الأزمة المالية العالمية وسنوات عدم الاستقرار السياسي، لكنه نموا يقترن بالفقر وانتشار الوظائف الرديئة وضعف معدلات التشغيل، وقد يكون غير مستدام بالنظر لاعتماده جزئيا على النشاط النفطي.
ففي الحالة المصرية كانت هناك قاعدة صناعية لا بأس بها ولكن معطلة بسبب سنوات من شح العملة الصعبة وارتفاع تكاليف استيراد المواد الخام، وبعد التعويم تضاعف سعر الدولار ولكنه صار متاحا مما ساعد على تشغيل قوى إنتاجية كبيرة تشغل أعدادا واسعة من العاملين.
وتبدو الحالة اللبنانية أكثر تعقيدا من مصر، ففي الحالة اللبنانية فإن مساهمة الصناعة والتعدين في الناتج الإجمالي تقتصر على نحو 8%، تحتاج البلاد إذاً إلى توسيع قاعدتها الصناعية لضمان نمو مستمر وتوفير فرص عمل مستقرة، ومثل هذه التجارب لم يخضها الصندوق مع أي من بلدان المنطقة فهذا النوع من التنمية لا يأتي على رأس أولوياته.
بل إن الإجراءات التقشفية التي على الأرجح سينصح بها الصندوق لبنان قد تساهم في إضعاف الطلب على قطاعاته النشطة والتي من أبرزها قطاع العقارات، إذ تقدر مساهمة العقارات والإنشاءات في الناتج الإجمالي إلى ضعف مساهمة نشاط الصناعة تقريبا، أي نحو 20%. [17] ولذا على لبنان التريث قبل الالتزام ببرامج تقشفية مع صندوق النقد الدولي.
[1] IMF says Lebanon requests technical help on economy, debt – Reuters- FEBRUARY 2020 – https://www.reuters.com/article/us-lebanon-crisis/imf-says-lebanon-requests-technical-help-on-economy-debt-idUSKBN2061A6
[2] وقد استجاب الصندوق لدعوة لبنان للتواصل وأرسل فريق من خبرائه للبلاد في الفترة من 20 -24 فبراير.
[3] 2019 ARTICLE IV CONSULTATION – IMF – October 2019.
[4] البنك المركزي المصري – النشرة الإحصائية الشهرية – فبراير 2020.
[5] أين تذهب أموالنا هذا العام – المبادرة المصرية للحقوق الشخصية – 2017 – https://bit.ly/2VnWkws
[6] محمد جاد – 2019: عام احتجاج الطبقة العاملة على مصاريف النقل – مركز حلول للسياسات البديلة – يناير 2020 – https://bit.ly/2TlJRGM
[7] لمعرفة تفاصيل أكثر عن معايير الدخل للحصول على الدعم الغذائي قراءة مقال كيف عطل “الإصلاح الاقتصادي” مفعول مسكنات الدعم – محمد جاد – المنصة – أكتوبر 2019. https://vww.almanassa.net/ar/story/13058
[8] ثلاثة أسباب للاحتفاء بالحد الأدنى للأجر.. مع ضرورة مد مظلته إلى العاملين في القطاع الخاص – المبادرة المصرية للحقوق الشخصية – مارس 2019 – https://bit.ly/2PuRYzU
[9] قانون 60 لسنة 2016 بزيادة المعاشات وتعديل بعض أحكام قوانين التأمين الاجتماعي.
[10] Ragui Assaad– Is the Egyptian economy creating good jobs? A review of the evolution of the quantity and quality of employment in Egypt from 1998 to 2018 – ERF – 2019. https://bit.ly/2T2vcRR
[11] Jordan: First Review Under the Stand-By Arrangement – IMF – May 2013 – https://www.imf.org/external/pubs/ft/scr/2013/cr13130.pdf
[12] بحث الدخل والإنفاق والاستهلاك 2017 -2018 – الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء – 2019 – https://www.capmas.gov.eg/Pages/Publications.aspx?page_id=5109&YearID=23160
[13] محمد جاد وحسناء محمد – النقود وحدها لا تكفي – المبادرة المصرية للحقوق الشخصية – فبراير 2018 – https://bit.ly/392v5LT
[14] Jihen Chandoul – The IMF has choked Tunisia. No wonder the people are protesting – Jan 2018 – https://bit.ly/382v4Gq
[15] سلمى حسين – عجائب الضرائب – الشروق – أكتوبر 2019 – https://bit.ly/2I0ARSc
[16] A bit too austere – Economist – February 2020.
[17] https://investinlebanon.gov.lb/en/lebanon_at_a_glance/lebanon_in_figures/economic_performance
عن المؤلف
صحفي يعمل على تغطية الاقتصاد المصري منذ 2003
Leave a Reply