فرح الشامي
تمكنت الطبقة الحاكمة لمدة ثلاثين عاماً من ممارسة لعبتها السياسية المتمثّلة بالتقسيم الطائفي والمذهبي والعقائدي وتداخل الدين والدولة، وباعتماد نموذجي الزبائنية السياسية والمحاصصة، وبالتستر على الفساد. ولطالما عوّلت هذه الطبقة على استراتيجيتها هذه وعلى سوء الأحوال الإقتصادية والإجتماعية التي تسببت هي به وانشغال المواطن بهذه الأحوال وبمتاعب الحياة بحثاً عن القوت اليومي والعيش الكريم في مراهنتها بأن الشعب اللبناني لن يتحد ولن يثور ولن يتصدّى لها يوماً. لكن الفقر قاتل والكرامة أقوى من أي شي. لا دين لهما ولا زعيم ولا وعود… فانتفض هذا الشعب العظيم في وجه ذاك الوحش الذي كان يقتله ببطء لمدة ثلاثين عاماً من أجل مصالحه ومكاسبه الخاصة. انتفض الشعب بعدما كان يلفظ أنفاسه الأخيرة لمنحه الثقة والكثير من الفرص لسلطة تقاعست عن تأدية أبسط أدوارها تجاهه من تأمين لفرص العمل والطبابة والاستشفاء والتعليم والشيخوخة والحماية الاجتماعية والبنى التحتية السليمة وغير ذلك من الخدمات العامة الأساسية. حتى أنّها أظهرت مؤخراً عن إخفاق كبير في حماية أرضنا من الحرائق وهي أكثر الكوارث الطبيعية بديهيةً. ربما كان الشعب ليستمر بقبول فساد السلطة ونهبها لأمواله وجرائمها المتنوعة لو تمكنت هذه السلطة من تحقيق جزء بسيط من وعودها له أو حتى من تأمين جزء من هذه المستلزمات الحياتية التي تعتبر حقوقاً مسلّمة في دول العالم في حين لم تكن يوماً سوى مطالب غير محقّقة في لبنان. كلّ ما أنجزته الطبقة الحاكمة حتى اليوم هو إنتاج نظام إقتصادي ريعي وعقد إجتماعي فاشل أديا إلى تعميق الفجوة بين الطبقات الاجتماعية لا بل وإحداث شرخ في نسيج لبنان الاجتماعي.
فتفاجأت الطبقة الحاكمة بانتفاضة لم تتوقعها أبداً. إنتفاضة شعبية قاعدية لا مركزية وعابرة للطبقات الاجتماعية – وهذا أكثر ما يميّزها ويمنحها تماسكاً وصلابة وأمل أكبر بالاستمرار والنجاح. وقد أتت صرخة كلّ الطبقات الاجتماعية واحدة في الشارع نتيجة الفجوة الاجتماعية التي افتعلها النظام السياسي وانعدام الطبقة الوسطى جراء سياساته التقشفية غير العادلة والنموذج الاقتصادي الذي تبناه. فأصبح تعريفنا لمصطلح “الطبقة الوسطى” يقتصر على النخبة المتعلمة من الشعب فقط. وصحيحٌ أنّه من الملفت والغريب إنخراط الميسورين إقتصادياً في هذه الانتفاضة، إلّا أن ذلك يعود إلى كون الثورة لم تنتج عن التوتر السياسي والوضع الاقتصادي المتدهور والظروف الاجتماعية المزدرية فحسب بل أيضاً عن مشاكل بيئية وأخرى بنيوية وحياتية تمسّ العيش الكريم لكل مواطن دون استثناء وتشوّه صورة لبنان أمام العالم. فإن تراجع الوضع المالي والاقتصادي للبنان بالشكل الذي كان عليه في السنوات الثلاثة الأخيرة وكون معظم فرص النهوص قد أُضيعت لأسباب سياسية ربحية ومحاصصاتية باتا يضرّان بمصالح رجال الأعمال والمستثمرين أكثر من أي وقت مضى. فضلاً عن ذلك، فإن فساد السلطة قد تفاقم بشدة حتى وصل بها الأمر إلى التفرقة ما بين الأغنياء أنفسهم، وكأنها تتبع “نهجاً غيرعادلاً للمحاصصة” فيما بينهم؛ فأصبح الأقوى منهم هو وحده من يصمد.
وفي النتيجة، خرجت الانتفاضة بطبيعتها المميّزة عن سيطرة السلطة السياسية وأثار ذلك، للمرة الأولى، الخوف والارتباك عند الزعماء السياسيين، ممّا كان واضحاً في كثرة وتكرّر خطاباتهم وفي مضمون هذه الخطابات وما تضمنته من غموض وإيحاءات وتهديدات مباشرة، إلخ. وكذلك في كثافة نزول العسكر والحراسة في الساحات وفي أماكن تواجد المسؤولين، وهي “أكثر ممّا نراه على الحدود مع العدو الاسرائيلي” – كما عبّر الكثيرون. وبدأت هذه السلطة الفاسدة، التي من المفترض أنها قد فقدت شرعيتها منذ اليوم الأول من الثورة، بمحاولة إفشال هذا الحراك بأي طريقة وبأي ثمن. وكأنّها هي الشعب الذي له أولويّة البقاء! وكأنّ لها ولمصالحها الأولويّة على وطن بأكمله! فتعددت الأساليب التي حاولت السلطة استخدامها حتى اليوم لاختراق الثورة واحتوائها والاستفادة منها بغية تحقيق مكاسب متنوعة. وتضمّنت هذه الأساليب محاولات من بعض الزعماء لتسجيل مواقف تضامنية مع الثورة اعتقاداً منهم بأن ذلك سيمنحهم شعبية أكبر حالياً أومستقبلاً، كما وتبنى البعض منهم بعض مطالب الشعب وحتى الثورة بأكملها ظاهرياً في خطاباتهم – وكأنهم ليسوا ضمن السلطة الفاسدة التي يثور الشعب ضدها – من أجل تمييع الثورة وتفريغها من معناها وأهدافها. وفي ذات الوقت، لجأت السلطة لأسلوب التهديد والتخويف والتهويل، واستخدمت العنف ضد المتظاهرين عبر مواجهة الجيش والقوى الأمنية لهم أحيانا ً (كما حصل في بعبدا) ومن خلال إرسال مندسين للقيام بأعمال شغب وضربهم أحياناً أخرى؛ كما استخدمت القمع الذي ظهر في اعتقالاتها التعسفية والعشوائية للمتظاهرين وتعنيفها لهم ومصادرتها لهواتفهم والتفتيش فيها؛ واعتمدت السلطة أسلوب التعتيم الإعلامي، والإنكار واللامبالاة، وكذلك التأطير البديل للثورة عبر إطلاق إتهامات بكون الثورة في قيادة جهة تسعى لتنفيذ أجندات ومؤامرات تخدم مصالح خارجية وبكونها ممولة من جهات معينة وخاصة من الخارج… وقد وجّه الزعماء أيضاً الكثير من الإهانات للمتظاهرين وقاموا بوصمهم. وحاولوا الاستخفاف بحجم وكيان الانتفاضة. وكذلك استخفوا بعقول الثوار بشكل صريح في خطاباتهم التي لم يكن أي منها مرضياً أومبنياً على أسس وبراهين مقنعة. فظهر هذا الاستخفاف مثلاً في الورقة الإصلاحية التي وضعتها الحكومة قبل استقالتها وفي اقتراحات الزعماء وخطواتهم ومشاريعهم المعلنة كافة، كما وفي طريقة طرحهم للأمور ومخاطبتهم للشعب. وبينوا عن الكثير من الرياء والنفاق.
كما احتوت أساليب السلطة لإفشال الحراك على محاولات للتحريض وإيقاظ الفتن والنعرات الطائفية والمذهبية والعقائدية من جديد، وذلك عبر إثارة مواضيع حساسة وقضايا مقدسة كمسألة العداوة مع اسرائيل عن طريق ربطها بطريقة ما بالحراك من أجل إبطاله. والأهم أن السلطة قد حاولت جاهدة تفكيك المتظاهرين من خلال هذه التكتيكات وخلق شارع في وجه الشارع الآخر، كجزء من بناء ثورتها المضادة. وظهر ذلك ملياً في مظاهرات التيار الوطني الحرّ التي كان من شأنها إعادة ما يمكن من شرعية رئيس الجمهورية وصهره وإعادة إثبات وجود هذا الحزب ككلّ، وكذلك في نزول شباب من أحزاب سياسية أخرى معارضة للثورة على الأرض لارتكاب أعمال العنف والشغب، وفي تهديد أحد الزعماء السياسيين للثوار ب”النزول إلى الشارع وعدم الخروج منه” بحال استمرار الحراك. وكان أيضاً تقسيم الشارع من أحد الأهداف الأساسية للجلسة النيابية التي كان من المزمع عقدها في الخامس من هذا الشهر قبل أن تُؤجّل لمدة أسبوع وثمّ يُمنع إنعاقدها للمرّة ثانية من قبل الشعب، والتي تضمّن جدول أعمالها مناقشة قانون العفو العام. فلم ترتأي السلطة مناقشة هذا القانون فقط لكي تعفي نفسها من عدد كبير من الجرائم البيئية والضريبية والمالية وجرائم الفساد (بالتصويت على إلغاء الاستثناءات على هذا النوع الأخير) وليس فقط من أجل إخراج عدد هائل من الشبان الفاسدين والمجرمين لمناصرتهم حالياً ومستقبلاً في الشارع وبأساليب غير سلمية، بل أيضاً من أجل خلق نزاعات في صفوف المتظاهرين لكون بعضهم يطالب بهذا القانون فيما يرفضه البعض آخر رفضاً قاطعاً. بالإضافة إلى ذلك، لجأت السلطة لأدوات كثيرة أخرى هدفها تفكيك الشارع كإثارة إشكالات على خلفية تسكير الطرقات التي يرفضها بعض مؤيدي الثورة لأسباب وجيهة ويرحب بها البعض الآخر لأسباب وجيهة أخرى؛ والإكثار من مخاطبة بعض الزعامات الدينية للناس؛ والتركيز على “الفساد السني” وحده في مبادرات الزعماء المضحكة لمكافحة الفساد الذين هم من أشد مرتكبيه؛ وتوقيف “بوسطة الثورة” المتّجهة من أقصى شمال لبنان إلى أقصى جنوبه في صيدا ومنعها من الوصول، والتي كان هدفها الوحيد توحيد اللبنانيين ومحو “بوسطة الحرب الأهلية” من الذاكرة؛ وفي المقابل، بناء مندسين لحائط نهر الكلب لكونه يرمز إلى الحرب الأهلية ويوجّه تهديداً مبطّناً من شأنه تأجيج الفتنة، إلخ. وقد أثبت الزعماء السياسيين بذلك كلّه استعدادهم لاتخاذ أي خطوة أو قرار من أجل إفشال الثورة واستعادة بعض الشرعية والقوة، ولو وصل بهم الأمر إلى افتعال حرب أهلية أو حتى حرب خارجية مع العدو.
وانصبّ كلّ ذلك ضمن إطار المراوغة والتأجيل أو المماطلة التي دائماً ما تستخدمها السلطة اللبنانية ردّاً على إحتجاجات شعبها. فإن اعتماد السلطة على المماطلة بشكل أساسي وعلى كلّ الأصعدة منذ بداية الثورة وحتى اليوم دليلٌ على تشبثها في مكانها ومحاولة زعمائها شراء ما تمكن من الوقت لأنفسهم سعياً إلى تهريب/ حماية أموالهم وبحثاً عن مخرج من المأزق الذي يواجهون. وهي أيضاً دليل على اتكال السلطة، مجدّداً، على أن الشعب سيمل وسيتعب وستتضرر مصالحه وسيترك الشارع، خاصةً وأنه شعب يعيش في الأساس معاناة إقتصادية وإجتماعية لا بد من أنها تتفاقم في ظروف مثل هذه. وما يطمئن السلطة أكثر من هذه الناحية هو نصيب القطاع غير الرسمي في لبنان، والذي يشكّل 32% من حجم الاقتصاد، من العمالة اللبنانية (يشمل المياومين والعمالة بدون عقود رسمية أو تأمينات اجتماعية في المنشآت الرسمية وغير الرسمية، إلخ.) وما يشير إليه ذلك من إنقطاع أو شبه إنقطاع لأرزاق العمّال من هذه الفئة الكبيرة، والتي تعتبر “ملح الثورة”، أثناء فترة الاعتصامات. إلّا أن الشعب تمكن من الصمود حتى الآن وبرهن عن كونه جباراً وعن كون المعاناة التي يحتج بسببها عميقة وحقيقية، لا يستهان بها وليس من السهل إخراجها من الشارع. وقد برهن الشعب عن جديته واقتناعه الراسخ بكل المطالب والمبادئ التي ناشد بها منذ اليوم الأول من الثورة. وأثبت عن مستوى من الوعي والمعرفة في الشأن السياسي والاقتصادي، لا سابق له، وهو نتيجة التعليم المدرسي والجامعي المتّسع بالدرجة الأولى؛ وقد ازداد مؤخراً نتيجة متابعة مستجدات البلد بكثرة وسط الظروف الحساسة؛ واصبح في ازدياد أكبر مع اندلاع الثورة وما رافقها من مشاركة هائلة للمعلومة عبر وسائل التواصل الاجتماعي وكذلك من نشر مكثف للمقالات والفيديوات ومن كثرة في النشرات الإخبارية والبرامج التلفزيونية والحلقات الحوارية والمحاضرات في الساحات العامة… وقد منحت روح الثورة سلاحاً جديداً للشعب وهو المجال في إظهار وعيه ومعرفته وفي استخدامهما لملاحقة ومحاسبة المسؤولين بصوت عالٍ وبدقة، وللضغط عليهم.
ونتيجة ذلك، كلّما كان المسؤولون يخطون خطوة أو يتوجهون للشعب بخطاب أو يتخذون قراراً أو إجراءاً ما أو يتقدمون بطرح ورقة إصلاحية أو مشروع مناقشة قانون ما، كان لهم الشعب بالمرصاد! فكثرت الأخطاء التي ارتكبتها السلطة منذ اندلاع الثورة حتى شكلت قائمة طويلة جداً، وارتفع رصيد الثورة ومصداقيتها مع كلّ خطأ إضافي على هذه القائمة! وتمكّن الشعب في العديد من الأحيان من مواجهة السلطة حتى النهاية وجعلها تتنازل، تتراجع، أو تتردد. وبرز ذلك في أحداث عديدة: من رفض المواطنين للورقة الإصلاحية التي قدّمتها الحكومة حتى أعلنت الأخيرة استقالتها، مروراً بخطابات الزعماء على أنواعها واختلاف أساليبها وتوجّهاتها والتي لحق كلّ منها تصعيد في الشارع وتفكيك لمضمونها وتعليق عليه بحذافيره من قبل الناس بالرجوع إلى معطيات علمية وقانونية، وصولاً إلى تأجيل الجلسة النيابية التي كان من المزمع عقدها في 5\11\2019 مرتين بعد اعتراض الشعب على ما يحمله جدول أعمالها من مغالطات وما يخفيه من مخاطر ودعوته للتصعيد ونزوله إلى الشارع لمنع انعقادها. وكذلك الأمر في ترشيح الطبقة الحاكمة لمحمد الصفدي كرئيس للحكومة المقبلة وما تسبب به ذلك من رفض قاطع من قبل الرأي العام حتى أعلن المرشح انسحابه. فشكلت كلّ هذه الأمور إنجازات للثورة وزادت الأمل في نجاحها. وهزّت هذه الإنجازات عروش المسؤولين. فما كان لهم سوى التواطؤ على شعبهم على مستوى المنظومة التي كونوها وما زالوا يحتمون بها والمؤلفة من الجيش والقوى الأمنية والمصرف المركزي والمصارف (متمثلة اليوم بجمعية المصارف) ورجال الأعمال أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة المتزاوجين مع السلطة السياسية.
اختلفت أشكال التواطؤ الذي مورس على الشعب. وتراوحت – مجدداً – بين وضع الجيش والقوى الأمنية في وجه المتظاهرين لقمعهم وتعنيفهم واعتقالهم، وإجبارهم على فتح الطرقات؛ والضغط على المدارس والجامعات لإعادة فتح أبوابها في البداية من اجل قتل نبض الثورة، ومن ثمّ – في المقابل – إصدار وزارة التربية لقرارات تدعي إلى تسكير هذه المدارس والجامعات من جديد وعند كلّ مناسبة بعدما فتحت أبوابها واستمرت الاحتجاجات رغما عن ذلك، وهذا لكي يشعر الناس بالتعطيل والجمود؛ وكذلك ممارسة التعتيم الإعلامي على الأحداث في الشارع وعبر إيقاف البثّ لأحد القنوات التلفزيونية في بعض المناطق؛ إلخ. أمّا نوع التواطؤ الأكبر والأهم فهو التواطؤ الإقتصادي الذي تمارسه السلطة بشكل خاص من خلال النظام المالي والسياسات النقدية لكون لهما التأثير الأسرع والأكثر مباشرةً على السوق. ويكمن في هذا التواطؤ تحديداً الخطر الأكبر على استمرار الحراك إذ أن الوضع الإقتصادي للشعب يمس لوازم عيشه ومستقبله وقدرته على الصمود في ظلّ السياق الذي تمّ وصفه أعلاه. وتمثّل هذا التواطؤ الإقتصادي بالإقفال المطوّل للمصارف بعد 17 تشرين الأول ومن ثمّ بالتدابير والقيود العشوائية والإعتباطية والإستنسابية التي اتخذتها المصارف منذ عادت وفتحت أبوابها للمرّة الأولى. ولا شكّ من أن هذه التدابير غير منظمة وغير رسمية إذ لم يتمّ إقرارها من قبل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ولا الإعلان عنها من قبل جمعية المصارف. لا بل ترافقت مع غياب مطوّل للسلطة عن الساحة رغم ما تسببت به من تداعيات سلبية هائلة كازدياد القلق عند الناس حول مصير حساباتهم الجارية وكذلك الإدخارية/ المجمدة؛ والإضرار بمصالح الكثيرين، ولا سيما صغار المودعين إذ أن الكبار منهم استفادوا – كالعادة – من استثناءات ومعاملات تفضيلية؛ وكذلك خلق سوقين أو سعرين للدولار مقابل العملة المحلية…
فبعد غياب طال حتى اليوم العاشر من الثورة، أدلى سلامة بتصريح تهويلي حول الوضع ليعود وينفيه ثمّ يغيب لأكثر من ثلاثة أسابيع تاركاً الناس في حيرة وتلبك وضياع وسط مئات التحليلات والنظريات والإشاعات والمعلومات المغلوطة وغير الموثوقة. و بعدما ترك سلامة أثناء غيابه الناس عرضة لتعسف المصارف وإخفاقها عن تأدية دورها وواجبها تجاههم دون أي تعليق، عاد ليلقي خطاباً متلفزاً في الحادي عشر من هذا الشهر، يتطّرق فيه لكلّ ما تمّ تداوله من شائعات وإحتمالات/ إقتراحات لإنقاذ الوضع (كالهيركت والكابيتال كونترول، إلخ.) والتي كانت المصارف قد بدأت بتطبيقها بعض الشيء ولو بشكل تمويهي وغير مباشر. وبالرغم من أن هذا الخطاب كان مطمئناً للغاية، لم يلقى إعجاب الكثيرين إذ لم يكن مدعوماً ببراهين وأرقام موثوقة بالشكل الكافي لإثبات عدم وجود أزمة بعد كلّ التهويل الذي حصل، ولكونه أتى بعد فترة طويلة من عدم التصريح والتدخّل وتضمّن تغييراً كبيراً في الأقوال مقارنة بما سبق. كما أتى مضمون هذا الخطاب ملغوماً، ككلّ الخطابات التي أدلت بها السلطة منذ اندلاع الثورة؛ والأهم هو أنه لم يأتي متكاملاً ولم يصبّ تحت سقف سياسة نقدية معينّة يمكن تعريفها وربطها بالواقع الذي نعيشه، ولو بدا خطاباً طبيعياً لأذن المواطن العادي. فمثلاً، كيف لسلامة أن يرفض القيام بتدابير كالكابيتال كونترول في ظلّ الصدمة التي يواجهها النظام المالي حالياً والحاجة لمثل هذا الإجراء مؤقتاً على الأقل؟ وكيف لنا أن نتغاضى عن تجاهل المصارف لتعليمات سلامة بسهولة واستمرارها بمعظم الاجراءات، إما من تلقاء نفسها أو بأمر من جمعية المصارف؟ فهل قصد سلامة عدم إقرار هذه الإجراءات حتى تبقى عشوائية وإعتباطية كمحاولة منه لحماية مصالح كبار المودعين؟ أم أن جمعية المصارف هي من يرفض الرضوخ لتوجيهاته ومن يريد تسهيل تهريب أموال المسؤولين وأصحاب رؤوس الأموال الكبيرة بذلك، في حين يتضرر المواطنون العاديون جرّاء ممارسة البنوك للقيود عليهم إعتباطياً؟ وما الداعي من عدم إعلان جمعية المصارف لقراراتها رسمياً، من جهة، ولتصدير سلامة لتوجيهات متناقضة باستمرار؟ ممّا لا شكّ فيه أن هذا المشهد يظهر انتهاكاً مباشراً لمبدأ الشفافية وأعراف العمل المصرفي. ولا يمكن تفسير هذه الضبابية في التعامل مع الوضع الراهن وأسلوب المماطلة والسكوت واللا مبالاة وتغيير الأقوال الذي اعتمده سلامة سوى بكونه مشترك مع السلطة في محاولة التلويح بالفوضى وزرع الشكوك عند الناس ووهمهم بوجود أزمة مالية وإقتصادية كبرى، وبأن هذه الأزمة هي نتيجة الثورة! والهدف من ذلك أيضاً إيصال رسالة للشعب بأن السلطة الحاكمة وحاكم مصرف لبنان هم حماة إقتصاد البلد وبيدهم الحلّ للنهوض به. ولم يكن صدفة إعلان جمعية موظفي المصارف إضراباً عاماً ومفتوحاً، بحجة تعرض موظفي المصارف للضغوط والإهانات منذ اندلاع الثورة، مباشرة قبل خطاب سلامة الأخير. فقد بقيت المصارف مقفلة بعد ذلك لمدّة أسبوع كامل. وعزّز ذلك استراتيجية السلطة في إقلاق الشعب، وإشعاره بالتعطيل والجمود والشحّ، وتجويعه. ولم تفتح المصارف أبوابها إلّا بعد تعميمٍ صدر عن المديرية العامّة لقوى الأمن الداخلي بخطّة أمنية لحمايتها، وبدأ تنفيذها. ولا بدّ من القول بأنها خطّة جدّية وموسّعة ومكلفة لموازنة الدولة. وأصبحت المصارف الآن بحماية رجال الأمن حتّى تتمكن من تهريب ما استطاعت من أموالها وأموال كبار المودعين بهدوء إضافة إلى كلّ ما هربته خلال فترة المماطلة والتسكير، وكذلك حتّى يتسنّى لها التضييق على صغار المودعين دون التعرض لأي إساءة منهم. وها هي جمعية المصارف والقوى الأمنية تشارك أيضاً في لعبة السلطةّ! وها هو نظامنا التفريقي يعيد إنتاج نفسه!
هكذا تمّ ترسيخ الإحساس بالفوضى، وهكذا غيبت الثورة المضادة حقيقة أن ثورة الشعب هي نتيجة الوضع الإقتصادي المزدري وسياسات الحكومة غير العادلة والممزوجة بالفساد والمدعومة بسياسات المصرف المركزي وهندساته المالية، وحاولت تبيان أن الثورة سبب لهذا الوضع. لكن إلى متى سيتمكن اللبناني من أن يصمد في ظلّ هذا الوضع وتبعاته، وفي وجه أساليب الثورة المضادة والمخاطر المستقبلية التي تشير إليها؟ إلى متى سيصمد هذا المواطن في الشارع دون التمكن من السعي وراء مدخوله اليومي ومن الوصول إلى أمواله؟ وإلى متى سيصمد إقتصاد لبنان وسط هذه الظروف وسلوك السلطة تجاهها، قبل أن ينهار ويتحمّل أعباء ذلك المواطن؟
عن المؤلفة
الأستاذة فرح الشامي حائزة على شهادة الماجيستير في الاقتصاد السياسي والتنمية الاقتصادية من جامعة ويليامز كولج في ولاية ماساتشوسيتس الأميركية من خلال منحة فولبرايت للدراسات الجامعية العليا. هي أيضاً حائزة على شهادة الماجيستير في الاقتصاد من الجامعة الأميركية في بيروت، حيث كتبت أطروحة بالاقتصاد القياسي حول التأثير الديناميكي لصدمات أسعار الغاز والنفط العالمية على الاقتصاد المصري، وعلى شهادة البكالوريوس العلمي في الاقتصاد والمالية من الجامعة اللبنانية الأميركية. تشغل الأستاذة فرح حالياً منصب مسؤولة برامج في معهد الأصفري للمجتمع المدني والمواطنة (في AUB) حيث تعمل بشكل خاص على الحركات الاجتماعية العبر-قومية. عملت سابقاً كمساعدة باحث في الأمم المتحدة – اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا وساهمت في كتابة التقرير الدوري للتنمية المستدامة في الدول العربية. كما عملت قبل ذلك كباحثة ومسؤولة برامج في شبكة المنظمات العربية غيرالحكومية للتنمية حيث كانت تدير برنامجين: الأول حول العدالة الضريبية في الأنظمة العربية ومن ضمن ذلك العدالة الجندرية في السياسات الضريبية في المنطقة، والثاني حول القطاع الاقتصادي غيرالرسمي في المنطقة العربية. كتبت الأستاذة فرح أوراق بحثية حول مواضيع إقتصادية وإجتماعية متعددة كالشراكات بين القطاع العام والخاص في لبنان من منظور نقدي ومبني على مبادئ حقوق الإنسان، واللامساواة في لبنان ما قبل وما بعد الأزمة السورية.
Leave a Reply