الدكتور مروان المعشر
إذا أرادت المنطقة العربية الانتقال إلى مجتمعات مستقرة ومزدهرة، فعليها أن تتبنى بنجاح نموذجًا جديدًا للمواطنة .لشعوبها، يدعم المساواة للجميع، و يحتفي بتنوع جميع مكوناته
يتكون العالم العربي من فسيفساء من المجتمعات العرقية والدينية. و بينما يفتخر العالم العربي بتنوعه، فإن سياسته وثقافته غالبًا لا تتطابقان مع هذا الخطاب حيث تخضع حقوق الأقليات – وغالباً الأغلبية – بشكل منهجي لسلطة النخب الحاكمة.
يعد تنوع وجهات النظر والآراء شرطًا أساسيًا لحل المشكلات والابتكار العلمي والاقتصادي والإبداع الفني. لا ينبغي تكريس احترام التنوع في الدساتير العربية فحسب، بل يجب ذكره في القانون وتدريسه في المؤسسات التعليمية حتى تتمكن الأعراف القانونية والثقافية من تسخير الإمكانات الكاملة لمختلف المكونات التي تشكل أي دولة عربية.
ضربت المنطقة خمس أزمات كبرى خلال ما يزيد بعض الشيء عن عقد من الزمان. إذا كانت الثورات ا الأولى – الانتفاضات العربية عام 2011 وتراجع أسعار النفط عام 2014، قد هزت أسس النظام العربي، تلتها انتفاضات 2019 في الجزائر والسودان والعراق ولبنان جاء وباء كوفيد -19 وآثار حرب روسيا-أوكرانيا بمثابة مسمار آخر في النعش. سلطت كل هذه الأزمات الضوء على التفاوتات الهيكلية التي تعاني منها الاقتصادات الريعية المختلفة في بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لا سيما من حيث الوصول إلى الصحة والتعليم والدخل والفرص للمواطنين/ات وعدم المساواة بين الجنسين واللاجئين/ات والمهاجرين/ات.
واقع الحال ان النظام العربي القديم قد مات. تفاقمت الظروف الاقتصادية والسياسية والمجتمعية التي أدت إلى الانتفاضات العربية في السنوات الأخيرة. تآكلت الحريات السياسية وفقدت مكاسب التنمية. لم يعطل كوفيد -19 والحرب الروسية الأوكرانية النظام العربي الحالي، الذي يعمل.و انما عمقت من التحديات الموجودة من قبل . .
يتطلب الطريق الوحيد للمضي قدمًا تغييرًا جذريًا في العقلية؛ حيث تقرر الحكومات العربية الاستثمار في شعوبها قبل فوات الأوان، وتدرك أنه لم يعد من الممكن تحقيق السلام الاجتماعي إما بالقوة أو من خلال الحوافز المالية، وتدرك أيضا أن تكلفة الإصلاح أقل بكثير من محاولة الحفاظ على الوضع الراهن.
يجب اعتماد نهج شامل جديد للحكم في المنطقة. يجب على الدول العربية توفير مساحات للمواطنين/ات للتعبير عن مخاوفهم/ن ومشاركتهم/ن الهادفة في عملية صنع القرار. كما ان أية خطط، مهما كانت مدروسة جيدًا، لن تكون إلا معادلة للاضطرابات المدنية إذا طُلب من المواطنين/ات المزيد من التضحيات دون أن يكونوا شركاء/شريكات حقيقيين/ات في المستقبل.
يجب تكريس مفهوم المواطنة المتساوية للجميع، بغض النظر عن الجنس أو التوجه السياسي أو الدين أو الأصل العرقي في أي عقود اجتماعية جديدة وترجمته من خلال الدساتير والقوانين العربية.
لم يتأثر وضع المرأة إيجابياً بشكل خاص خلال الانتفاضات العربية، ربما باستثناء تونس، على الأقل حتى اوقتى قريب. لقد حان الوقت للعالم العربي لتكريس المساواة بين الجنسين دستورياً ومن خلال الممارسة. بدون هذه الحقوق السياسية والقانونية الكاملة، وبدون خوض المعركة من أجل حقوق المرأة لتحقيق نهايتها المنطقية الوحيدة، لا يمكن أن يكون هناك طريق نحو مجتمعات مستدامة ومزدهرة.
يعتبر إعداد مواطنين/ات فاعلين/ات وناقدين/ات قادرين/ات على العمل في القرن الحادي والعشرين أمرًا أساسيًا لازدهار الدول العربية على المدى الطويل. ستحتاج الدول العربية إلى تغيير أنظمتها التعليمية بشكل جذري من التركيز الضيق على “اكتساب هيئات معرفية محددة ومعتمدة” إلى تركيز أوسع على تعزيز المواطنة الديمقراطية والمشاركة، واكتساب مهارات عالية المستوى في التحليل والتوليف والتقييم والتفكير النقدي.
يجب على الإصلاحيين/ات العرب أيضًا التخلص من المخاوف التي تزعم أن أي مراجعة للأنظمة التعليمية الحالية هي هجوم على الثقافة العربية أو المعتقدات الدينية، وأن يقبلوا أن التغيير يتعلق بتجهيز الناس للتعامل مع الحياة. يعد هذا التحول أمرًا حاسمًا في وقت تحدد فيه المعرفة والتفكير النقدي الخط الفاصل بين القوة والعجز وبين النجاح والفشل.
تعني نهاية حقبة النفط في العالم العربي أن الدول المنتجة للنفط لم تعد قادرة على الحفاظ على نموذج دولة الرفاهية بينما لم تعد الدول المستوردة للنفط قادرة على الاعتماد على الهبات الخليجية للحفاظ على أنظمتها الاقتصادية غير الفعالة. قتل النفط قيم الإنتاجية والجدارة لصالح المحسوبية. كما أنه أعاق عملية الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي تشتد الحاجة إليها. أدى النفط أيضًا إلى تضخم الحكومات، حيث استخدمت عائداتها لتوظيف نسب متضخمة من القوى العاملة في القطاع العام، غالبًا لأسباب المحسوبية.
تتطلب الاقتصادات الشاملة أيضًا مجتمعات شاملة. في القرن الحادي والعشرين، ستُقاس ثروة الأمم من خلال رأس مالها البشري، وسيكون المواطنون/ات العرب مكونًا حيويًا للتحول في المنطقة.
المعركة الحقيقية في العالم العربي اليوم هي معركة من أجل التعددية والتنوع والمواطنة المتساوية والشاملة. إنها معركة ضد الأساطير القديمة والمعتقدات والسلطوية والأبوية والعقول المنغلقة.
عن الكاتب
الدكتور مروان المعشر، أمين في الجامعة الأميركية في بيروت، نائب الرئيس للدراسات في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، ووزير الخارجية السابق ونائب رئيس الوزراء الأردني.