الدكتور سيمون كشر
لا مواطن من دون دولة، ولا دولة من دون تخطيط، ولا تخطيط من دون مسؤول!
في التعريف الحديث، يمكننا القول بأن الدولة هي منظمة سياسية إلزامية تحتوي على حكومة مركزية تحافظ على استخدام القوة بشكل قانوني ضمن إطار محدد على أراضيها. إنها أيضًا مجموعة من الأفراد الذين يعيشون في منطقة محددة ويخضعون لسلطة محددة. هناك تعريف آخر للدولة يصفها على أنها مساحة من الأرض تحتضن سكانًا دائمين وإقليمًا معينًا وحكومة قادرة على الحفاظ على سيطرتها الفعالة على أراضيها والتعامل مع العلاقات الدولية مع الدول الأخرى.
على الرغم من البساطة التي يتميز بها تعريف الدولة، فإن مفهوم الدولة والتفكير في أصلها وأساس سلطتها يثير العديد من التحديات. إن الدولة هي حقيقة سياسية لأن المجتمع الدولي يتألف بشكل أساسي من وحدات سياسية تحمل كل منها لقب “دولة”. بالإضافة إلى ذلك، الدولة هي مفهوم قانوني يهدف إلى تنظيم العلاقات بين وحدات سياسية غير متكافئة في القوة بناءً على مبادئ العدالة والمساواة. يجب أن تقوم العلاقات بين الدول على أساس المساواة في السيادة وفقًا للقانون الدولي.
من الممكن أن يبدو كل هذا غريبًا على بعض القرّاء، سواء كانوا يعملون في الشأن العام أو الخاص. فأين المواطن من الدولة؟ وأين تقف الدولة فيما يتعلق بالتخطيط؟ وكيف يمكن بناء الأمة انطلاقًا من الدولة، كما دعا إليه الرئيس فؤاد شهاب؟ كان الرئيس شهاب يقول: “من الممكن أن نحقق الوطن ومواطنيه عبر الدولة، بدلاً من أن نبدأ بالعكس، وهو أمرٌ أصعب بالنسبة لنا في لبنان في هذا الوقت”. لا يزال هذا القول صالحاً في أيامنا الحالية.
لاحظ الرئيس شهاب أن المجتمع اللبناني يمر بفترة مضطربة، حيث تسوده الفرديّة الشديدة والطائفية، وتعود أسباب ذلك إلى الاحتلال الطويل الأمد الذي تعرضت له البلاد، والذي دفع اللبنانيين للجوء إلى الحماية الفردية نظرًا لغياب حماية الدولة. اعتاد اللبناني على مواجهة المشكلات بمفرده ومن خلال انتمائه الأولي، دون اللجوء إلى سلطة الدولة. فهمت الشهابية أن ولادة الوعي المدني والتفاهم الوطني تواجهان عقبات يجب التغلب عليها بشكل مدروس، وأن جميع طبقات الشعب يجب أن تستفيد من الثروات التي ينتجها الاقتصاد الوطني. وبالتالي، سعت الدولة الشهابية إلى تقليص الفجوات في جودة الحياة بين مختلف الطبقات من أجل القضاء عليها، وذلك من خلال التركيز على تنمية المناطق الهامشية.
أراد فؤاد شهاب من الدولة أن تبني الأمة، تلك الأمة التي عرّفها انطون سعادة في نشوء الأمم بأنها “أتم متحد”. إذا لم يُقدِّم المسؤول للمواطن صورة دولة موثوق بها، لن يستطيع أن يكسب ولاءه. وبهدف توحيد المواطنية البانية للدولة يجب الذهاب إلى المواطن وإستعادة ثقته. واجب المسؤول أن يذهب هو نحو المواطن من خلال الدولة، لا أن ينتظر المواطن أن يأتي إليه. هذا كان سر فؤاد شهاب.
لم يصل شهاب رئيسًا لدولة هادئة وأراد تحسينها، بل أتى رئيسًا على دولةٍ مفكّكة وثورة شعبيّة أراد أن يلملمها ويجمعها ومن ثم التفكير بما يمكن أن يفعله. فقد لاحظ شهاب بأنّ المجتمع اللبنانيّ كان مجتمعًا مضطربًا ويمرّ بمرحلة انتقاليّة تسوده الفرديّة الحادّة والطائفيّة اللتان تعود أسبابهما للاحتلال الطويل للبلد الذي شجّع اللبنانيّين على اللجوء إلى الحماية الفرديّة في ظلّ غياب حماية الدولة.
أراد فؤاد شهاب من الدولة أن تبني الأمّة وهو كان له هدف واحد بعنوان كبير “بناء دولة الاستقلال”. اِعتبر بأنّه يجب على الدولة أن تقوم بواجباتها كي يشعر المواطن بمواطنيّته، لذلك أراد بناء دولة الاستقلال ليس فقط من الناحية السّياسيّة بل من ناحية التنمية أيضًا، فراهن على تجاوب المواطن عندما شعر هذا المواطن بأنّ الدولة مهتمّة بأموره الحياتيّة والمعيشيّة.
رأى فؤاد شهاب أن ذهابه مباشرةً إلى المواطن لن يصلح بسبب سيطرة الطبقة السّياسيّة عليه وعلى البلد، فذهب باتّجاه بناء الدولة من خلال بناء المؤسّسات، فأصبح المواطن يلتحق بالدولة. آمن شهاب بأنّ إرساء دولة الاستقلال لا يكفي بالتعويل على وجود قوّات أمنيّة وقوّات مسلّحة للدفاع عن الحدود وحماية الأمن اللبنانيّ من أي اعتداءات من الخارج، بل يتطلّب أيضًا ولادة دولة الاستقلال من المشاركة التي ينخرط فيها اللبنانيّون جميعًا دون استثناء، وبالرغم من نيّته وعمله على بناء دولة بانية للمواطن ومواطن بانٍ للدولة، إلّا أنّه اصطدم بواقعِ رَفْضِ المكوّنات السّياسيّة لهذا المبدأ. ذهب شهاب نحو المواطن من خلال الدولة، ولم ينتظر أن يأتي المواطن إليها.
خلال نهاية الأسبوع الفائت، نظم “معهد الاصفري للمجتمع المدني والمواطنة” في الجامعة الأميركية في بيروت مؤتمراً أكاديمياً حول “إعادة تصور المواطنة” وهو الأول من سلسلة مؤتمرات سنوية سيعقدها المعهد تتمحور حول مواضيع المواطنة. اغتنى المؤتمر بمداخلات وتحليلات المتحدثات والمتحدثين وكان لي الشرف أن أكون مشاركاً كرئيس جلسة ومتحدث في أولى جلسات المؤتمر، حيث ركزت في ملاحظاتي الختامية للجلسة أنه يجب التركيز على ثلاثة مواضيع في المستقبل، وهي: على الصعيد القانوني، تحويل المواد الدستورية المضافة إلى دساتير بعض دول المنطقة إلى قوانين تضمن المساواة في الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية لجميع المواطنين؛ وعلى صعيد السياسات العامة، اقران إصلاحات تشريعية بسياسات واضحة تهدف إلى تنفيذ هذا التشريع؛ وعلى الصعيد الأكاديمي، أي تعديل المناهج الدراسية وهي الخطوة الأولى نحو تعزيز قيم المواطنة. لا تسلط المناهج الدراسية الحالية في معظم البلدان العربية الضوء على تنوع المجتمع، وفي الواقع تصور مجتمعاتهم على أنها متجانسة عرقياً ودينياً ، وهو أمر غير دقيق في معظم الحالات. من المهم أن يبدأ المواطنون التعلم في سن مبكرة لقبول الاختلافات الثقافية وتعلم كيفية وضع حقوق المواطنة قبل العرق واللون والمذهب وما شابه.
أما المتحدث الرئيسي في المؤتمر، عضو مجلس أمناء الجامعة الأميركية في بيروت، الدكتور مروان المعشر، فقد ألقى كلمة كان لها صداها الإيجابي في إفتتاح المؤتمر، ركز فيها على إضمحلال النظام العربي القديم، وبأنه ما يجب أن يحصل هو تغيير جذري في العقلية، كون كلفة الاصلاح أقل بكثير من الحفاظ على الوضع القائم. ودعى المعشر إلى العمل على عقد إجتماعي جديد يقوم على نظام قائم على المواطن؛ على التعليم، حيث يكون هدف التعليم خلق مواطنين يتحلون بحس النقد؛ على إقتصاد شامل يقوم على الإنتاجية بدل المحسوبية؛ وعلى مجتمعات شاملة تقوم على التعددية بدل الأحادية.
في النهاية، أود أن أدعو الجميع، إنطلاقاً من دعوتي إلى إستعادة سلطة “الكتاب” في أي إصلاح سياسي (وكلمة “كتاب” تعني الدستور وهي كلمة كان يستعملها الرئيس شهاب في معرض أي موضوع سياسي)، ادعو الجميع إلى إستعادة سلطة المواطنة من أجل بناء مجتمعات شاملة وسليمة قائمة على التعددية.
عن الكاتب
،الدكتور سيمون كشر، محاضر في العلوم السياسية، زميل معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون .الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت
Leave a Reply