25 جويلية وأسس السلطوية الجديدة في تونس

زياد خلّوفي

دخلت البلاد التونسية خلال فترة الجائحة وما بعدها في أزمة اجتماعية وسياسية حادة، انتجت تحركات احتجاجية كبيرة عاشتها البلاد في شتاء 2020-2021 والتي رفضت الإجراءات الحكومية لجائحة كورونا وخاصة “الحجر الصحي وفرض منع التجول”، وقد تحوّلت هذه التحركات إلى احتجاجات لها مطالب اجتماعية وسياسية تطالب برحيل المنظومة السياسة الفاسدة ومن أبرز شعاراتها “فاسدة المنظومة… الحاكم والحكومة”. ومع انتهاء شتاء 2021 تراجعت قدرة الحركة الاحتجاجية في تونس على الحشد والتعبئة، في مقابل تعمق الأزمة السياسية والاجتماعية.

وكان أبرز مظاهر هذا التعمّق: الصراع بين رأسي السلطة التنفيذية (رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة) والصراع أيضًا بين رئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان. وفي شهر تموز/يوليو ظهرت أصوات تطالب برحيل البرلمان وإسقاط الحكومة وتدعو إلى أن يكون يوم  25 من الشهر ذاته يوما احتجاجيًا في كل الجهات، تنديدًا بسياسات الحكومة وسياسة الابتزاز التي مارسها الحزب الأول في البلاد (حركة النهضة الإسلامية). شهد البرلمان بالعاصمة تحركات ومسيرات ضخمة، بالإضافة إلى تحركات بمحافظتي سوسة وصفاقس، عقبها خطاب لرئيس الجهورية دعى فيه إلى إقالة الحكومة وتجميد البرلمان استنادا إلى الفصل 80 من الدستور وبالتالي دخول البلاد في مرحلة استثنائية استمرت إلى يومنا هذا.

ومن أبرز ملامح الطابع الاستثنائي التدابير والمراسيم الرئاسية التي أسست تدريجيًا إلى سلطوية جديدة أحكم من خلالها رئيس الجمهورية “قيس سعيد” على السلطات الثلاث؛ التشريعية والقضائية والتنفيذية. ومن أبرز هذه المراسيم والتدابير والإجراءات السلطوية والفردية لرئيس الجمهورية: الأمر الرئاسي عدد 578 لسنة 2022 ليوم 30 جوان/يونيو المتعلّق بنشر مشروع الدستور الجديد، والمرسوم عدد 55 لسنة 2022 في 15 سبتمبر المتعلّق بتنقيح القانون الأساسي عدد 16 لسنة 2014 المتعلّق بالانتخابات والاستفتاء

دستور 25 يوليو/ تموز: صلاحيات مطلقة للرئيس.

دخلت البلاد في حالة جدل كبير فيما يخصّ عدّة فصول في الدستور الجديد، بدايةً من التوطئة والباب الأول من الأحكام العامة والباب الثاني المتعلّق بالحقوق والحريات وباب الوظيفة التشريعية، والباب الرابع المتعلّق بالوظيفة التنفيذية.

تبيّن الفصول 100: 110 في القسم الأول من الباب الرابع الصلاحيات المطلقة لرئيس الجمهورية حيث يتحكّم بمختلف مفاصل السلطة التنفيذية فهو الذي يضبط السياسة العامة ويحدد الاختيارات الأساسية للدولة التونسية ويكتفي بإعلام مجلس النواب والمجلس الوطني للجهات والأقاليم، و”له أن يخاطبها معًا أو مباشرة أو بطريق بيان يوجه إليهم” في حين أنّ هذه المهمة كانت من صلاحيات البرلمان في الدستور السابق.

كما يعين رئيس الجمهورية رئيس الحكومة وأعضائها وإليه تعود سلطة عزلهم تلقائيًا، وهي المهمّة التي كانت موكلة للحزب الفائز في البرلمان. هذا وتسهر الحكومة في الدستور الجديد على تطبيق السياسات العامة للدولة وفق التوجيهات التي يضبطها الرئيس. إضافة إلى كون الرئيس هو القائد الأعلى للقوات المسلحة وهو الذي يصادق على القوانين والمعاهدات كما يمكّنه الدستور من تقديم نصوص تشريعية إلى البرلمان الذي يجب أن ينظر فيها على سبيل الأولوية. ومن صلاحياته كذلك تسمية القضاة وتعيين كبار المسئولين في الوظائف المدنية والعسكرية للدولة. حيث تبيّن هذه الفصول الصلاحيات الواسعة للرئيس ومدى تحكمه في مفاصل السلطة التشريعية برأسيها، إضافة إلى التدخّل الواضح في السلطة القضائية من خلال أحقيّة تسمية القضاة.

كما ألغى الدستور الجديد كل الفصول التي من شأنها مراقبة الرئيس على أدائه ولم تحدد أي شروط لسحب الثقة منه، بل ورد في الفصل 110 من الدستور أنّه، “لا يسأل رئيس الجمهورية عن الأعمال التي قام بها في إطار أدائه لمهامه”، وهو يكرس سلطة الفرد المنزّه من المحاسبة والمساءلة.

وتؤكد هذه الفصول دون أدنى شك التمشي السلطوي والفردي الخطير الذي انتهجه رئيس الجمهورية لإحكام السيطرة على الدولة ومفاصلها بمفرده. فبعد الاستفتاء على الدستور الجديد أصدر الرئيس مرسومًا جديدًا يتعلّق بالقانون الانتخابي، وقد أرسله للهيئة العليا المستقلّة للانتخابات.

قانون انتخابي يضرب العمل الحزبي ويعطي الأولوية للأثرياء ويتخلّى عن المناصفة

صدر يوم 15 سبتمبر 2022 المرسوم عدد 55 المتعلّق بتنقيح القانون الانتخابي استعدادًا للانتخابات التشريعية المقررة يوم 17 ديسمبر 2022. وكان الرئيس وفيًا للنهج الفردي الذي مارسه طيلة الفترة الانتقالية حيث تجاهل إشراك الجهات الفاعلة والمنظمات الوطنية والأحزاب والمجتمع المدني واكتفى بطلب مقترحات بعض الأحزاب التي انخرطت ودعمت مسار 25 جويلية/يوليو/تموز، بل لم ينتظر موقف ورأي الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات التي تحصلّت على القانون قبيل سويعات من إصداره بالرائد الرسمي (المطبعة الرسمية للجمهورية التونسية). والتي بدورها لا يمكن أن تنقد المسار الفردي للرئيس لأن تعيين أعضائها أصبح من صلاحياته عوضًا عن مجلس نواب الشعب.

أحتوى القانون الانتخابي الجديد على تعديلات تأسس لمجلس رجالي قائم على ولاءات القبيلة والعروش من خلال التحوّل من نظام الاقتراع على القائمات إلى نظام الاقتراع على الأفراد الذي من شأنه أن يضرب مبدأ تمثيل كل الفئات الاجتماعية كالمرأة والشباب باعتبار التخلّي على مبدأ التناصف ومبدأ تمثيل الشباب فلا يعني اشتراط أن تكون 400 تزكية مناصفة بين الرجال والنساء وفيها 25 بالمائة من الشباب أنها مثلت هذه الفئات الاجتماعية فهذا لا يمنع من أن يكون كل المرشحين رجالًا ومتقدمين في السن في نفس الوقت، حيث نجد 215 امرأة مرشحة للانتخابات البرلمانية القادمة من جملة 1430 مرشّح. كما يكثّف نظام الاقتراع على إذكاء مبدأ الانتماء القبلي والعشائري بدل البرنامج السياسي ويفرز لنا مشهد برلمان مشتت تغيب فيه المعارضة الحقيقية لخيارات الرئاسة.

هذا ويمكن أن تعتبر آلية سحب الوكالة التي وجدت في القانون الانتخابي الجديد أداة لفرض الطاعة والولاء للرئيس وتحوّل المدّة النيابية إلى فترة انتخابية متواصلة ونقلّص في نسبة المعارضين بجدّية، والتي تكون عن طريق عريضة موقّعة من قبل 1/10 من الناخبين المسجليّن بالدائرة الانتخابية التي ترشح بها النائب المعني. كما يستثنى المرشّح للانتخابات الرئاسية من أي عقوبة في حالة الحصول على تمويل أجنبي وهو أمر غريب من شأنه أن يفتح بابا كبير للفساد المالي في الانتخابات الرئاسية ويؤكد تمشي رئيس الجمهورية في إزالة كل الفصول التي فيها رقابة أو عقوبة.

كما يهدف الرئيس من خلال القانون الانتخابي إلى مواصلة ضرب وإضعاف الأحزاب من خلال التصويت على الأفراد الذي يشكل مدخلا للإفراغ التمثيل الانتخابي من المحتوى الحزبي والسياسي وبالتالي نخرج من الحديث على البرامج الانتخابية إلى مجرّد الحديث على الأفراد وانتماءاتهم القبيلة. وفي هذا الإطار أعلنت هيئة الانتخابات أنها ستتعاطى مع كل المرشحين بصفاتهم الفردية حتى وأن كانوا منتمين إلى أحزاب سياسية وستكون برامج الناخبين مشروطة بالمصادقة على البرامج الفردية للمرشحين حسب الاستمارة المنشورة على موقع الهيئة. هذا ويعتبر إلغاء التمويل العمومي للانتخابات فكرة للحد من الفاعلية الحزبية وهدية للمرشحين الأثرياء وغير المسيسين والذي من شأنه أن يؤدي إلى مشهد برلماني غير مسيس يكتفي بالبحث على مصالح فردية عبر الانخراط مع السلطة التنفيذية ورئيس الجمهورية المتحكم الرئيسي في المشهد والتأسيس لعلاقات زبائنية.

في ظرف سنة وشهرين من الوضعية الاستثنائية التي عاشتها تونس تمكّن قيس سعيد من فرض سطوته على كل السلطات وضرب مبدأ الفصل بين السلطات ورقابة كل منهما على الأخرى عرض الحائط، خاصة بعد حل البرلمان والمحاولات المتكررة للسيطرة على القضاء وإرساء مؤسسات دستورية موالية له على غرار الهيئة العليا للانتخابات ودستور على المقاس. كل هذه الظروف أدّت إلى مقاطعة العديد من الأحزاب السياسية والمنظمات الوطنية والحركات الاجتماعية الجديدة للاستفتاء حول الدستور الجديد والانتخابات البرلمانية القادمة يوم 17 ديسمبر 2022. تشير كل هذه المعطيات إلى سير تونس في مسار ارتدادي عن المكتسبات المحققة بعد المسار الثوري الذي انطلق من 17 ديسمبر 2010 لتسير في مسار إعادة تأسيس السلطوية على غرار الدول العربية التي عاشت مسارات مشابهة خلال نفس الفترة. 


عن الكاتب

زياد خلّوفي، ناشط سياسي وباحث في التاريخ والآثار وعلوم الترا

Leave a Reply