البحث عن عقل القمع

مصطفى عبد الظاهر

منذ أن اهتدت الفلسفة السياسية إلى تصور حول الدولة الحديثة كانت هناك صلة معقودة بين الدولة من جانب، وبين العقلانية من جانب آخر. تُعَرف الدولة، بداية، على أنها جهاز يحتكر العنف الشرعي، يفرض سيادته الخارجية بإزاء أقرانه من الكيانات الدولية الأخرى، ويفرض سيادته الداخلية عبر اكتساب قدرات تنظيمية مضطردة التوسع، تستهدف تنظيم نطاقات الحياة الاجتماعية.

الدولة مفهوم سلطوي بطبيعته، فهي الجهاز القادر على ممارسة العنف “المشروع” عبر “إنفاذ القانون”، وهي أيضًا الجهاز القادر على وضع استثناءات من مبدأ إنفاذ القانون ذاته، عبر مفاهيم غامضة ومبهمة، لا يخلو منها أي دستور من دساتير العالم، مثل مفاهيم المصلحة العامة والأمن القومي والسلم المجتمعي والآداب العامة، التي لا تُعرف دلالتها بأي قدر من التحديد، قل أو كثر، إلا من خلال التأويل القانوني والسياسي عبر الممارسة الواقعية، وعبر أحكام المحاكم ورغبات السلطات الحاكمة في كل عصر، في مخالفة فجة لأهم المميزات التي يدعيها المنطق الوضعي القانوني لنفسه: “العموم والتجريد”.

يخرج الإنسان إلى الوجود السياسي حاملًا هذا التناقض الخاص بين ضلوعه؛ يعرف المعنى ولا يعرفه، ويخشى تحول أي فعل من أفعاله فجأة إلى جريمة دون نص قانوني يذكر. يعي أنه مشمول بما يُسمى “المصلحة العامة” وفي نفس الوقت، يعلم أنه، باختلاف تأويلي يسير، يُمكن أن يتعرض للقتل أو تتعرض حريته للسلب أو يتعرض ماله للمصادرة، إذا ما تحركت رغبة السلطة تجاه موقف مختلف من مفهوم “المصلحة العامة” الذي لطالما ادّعت حمايته، أو أرادت تأويله بشكل جديد يستبعد أكثر مما يشمل.

بالرغم من هذا التناقض المتأصل، ثمة حاجة ملحة لإضفاء صفة العقلانية على ممارسات الدولة، القانونية والسياسية، يُمكّن المواطنين من صنع “معنى” مُحتمل ومعقول، يُمكنهم التعايش معه بلا خوف من الوقوع في دوائر من العشوائية والعبث. والحق أن الدول تتفاوت في هذه المعقولية على درجات، بحسب ما تصل إليه من مراتب الديمقراطية والرشادة، لكن تبقى الأزمة البنيوية الأساسية مرتبطة بتكوين الدولة ذاتها، وما يُمنح لها من قدرات تمكنها من وضع القواعد، ومخالفتها، ووضع القوانين، والاستثناءات أيضًا متى تطلب الأمر.

وتمتد الحاجة إلى إضفاء المعقولية على الدولة كموضوع، بقدر ما تمتد ممارسات الدولة ذاتها، وبقدر ما تطال من نطاقات الحياة الاجتماعية. وعلى نفس منوال صنع الأساطير المؤسسة والأخيلة الاجتماعية العامة، يجري فهم الدولة على أنها -وبالرغم من أي تناقض أو تضارب قد يشوب تصرفاتها- ذات عقل مفكر ومدبر، يمكنه أن يقيس “مصالحها” والموازنة بين العواقب والمنافع، على أساس “الصالح العام” الذي قد سبق وسردته الدولة ذاتها وادعت مراعاته. حتى في أكثر الأفكار النظرية عنفًا حول الدولة، التي شبهتها بالوحوش الأسطورية تارة (ليفايثان هوبز، وبهيموت نيومان، ومينوتور دوجوفينيل… إلخ) أو شبهتها بعصابات العمل الإجرامي المنظم تارة أخرى، كما يقول المنظر الاجتماعي تشارلز تيللي: “يُمكن أن يعد بناء الدولة أول صورة من صور الجريمة المنظمة في التاريخ”.

كان هناك ميل للحفاظ على الطابع العقلاني لتصرفات الدولة، فلم يكن هؤلاء المنظرون أو غيرهم، في أشد لحظاتهم كراهية للدولة أو تأففًا من عنفها، يُبشرون بشكل جديد من أشكال الإدارة السياسية أو القدرات التنظيمية يتجاوز ما قد يعتري الدولة من عوار، أو عنف “اضطراري”. ولم يدعوا إلى نوع من الأناركية، ربما يجنب الإنسان عواقب التنظيم القسري، بل كانوا لا يرون مفرًا من العمل من أجل إحكام السيطرة على أجهزة الدولة البيروقراطية، وإن بضريبة عنيفة معممة، وكأنها جهاز حيادي وقع، فقط، في الأيدي الخطأ، أو كما يصف الفقيه الدستوري بينجامين كونستنان في محاضرة ألقاها عام 1872، أنهم: “يكرهون دائمًا الحد من سلطة الدولة السيادية. إنهم ينظرون لأنفسهم كورثة لها، ويصونون ملكيتهم المقبلة، حتى عندما تكون في أيدي أعدائهم”.

والحق أن تاريخ ممارسة السياسة في العالم الحديث، وخاصة المعارضة منها، يثبت أن “الحاجة للدولة” كانت دائمًا مما لا مفر منه، كعقيدة قبلية سابقة على الممارسة السياسية، سيكون الخلاف فقط في هذه اللحظة مرتبطًا بالموقع، أو بالفئات الأولى بالرعاية، أو بأولويات العدالة الاقتصادية والاجتماعية.. إلخ. الأمر الذي طالما ساعد على سرد الدولة كجزء من “قصة” عقلانية، هو أن الدولة الحديثة، منذ نشوئها، كانت تتخذ موقعًا/أيدولوجيا يحمي مصالح فئة أو مجموعة من الفئات، بإزاء استغلال وقمع مجموعات أخرى واضحة، فيمكن من خلال فهم هذه “الثنائية” البرجوازية ضد البروليتاريا، المدينية ضد الريفية، العلمانية ضد الدينية، الصناعية ضد الفلاحية، الاستعمارية ضد المُستعمرة.. إلخ. أن يتصور المرء أن تغيير “موقع” الدولة أو موقفها، سيضعها على بداية طريق إصلاحي ما. إلا أن هذه الطريقة المتوارثة في الفهم قد تضفي على بعض الأجهزة السلطوية ما لا تمتلكه أو تدعيه من عقلانية.

المواطن كعدو محتمل

لقد لاحظ الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو أن الاضطرابات الكبرى في أوروبا في العصور الوسطى كانت بمثابة أثر للتحول من مركزية الإله كما تراه الكنيسة في العصور الوسطى، إلى حكم الإنسان والمؤسسات السياسية والنظام السياسي. وأن ما نتج عن ذلك كان سلسلة من النزاعات بين أولئك الذين حاولوا تعريف السيادة على أنها تدبيرًا أو “فنًا للحكم” وبين ما يعرف باسم “منطق الدولة”. فبحلول نهاية القرن السادس عشر، بدأ المجتمع الغربي في تعريف نفسه على أنه إقليمي وتوسعي مع إيلاء العناية القصوى بمفهوم الأمن (وهو الأمر نفسه الذي يعيده توماش ماستناك إلى آثار نهاية الحملات الصليبية).

يقترح فوكو أن فلسفة منطق الدولة قد وجدت طريقها إلى أوروبا من خلال صلح ويستفاليا (المعروف باسم ميزان القوى في الفكر الحديث)؛ ويمكن العثور على هذا في أعمال الفيلسوف السياسي الإيطالي جيوفاني بوتيرو، الذي يعده فوكو أبًا لهذه الفكرة، حيث خلص بوتيرو إلى أن الدولة هي سلطة مهيمنة على الناس. لقد حدث هذا، في رأي فوكو، بين القرن الثالث عشر والقرن الثامن عشر، ومن القرن السادس عشر يبدأ الموضوع في اتخاذ شكل اقتراح سلام دائم، والذي كان ينتمي بشكل أساسي إلى الكنيسة في العصور الوسطى، ويتخذ شكل “توازن القوى”. كان حل مشكلة الديمقراطية هو دمج الجماهير في آلية الدولة التي كان عليها أن تحكم.

يوضح فوكو بعد ذلك أن منطق الدولة لم يكن معنيًا بالشرعية (كما نعرف المصطلح اليوم الذي يترجم إلى العربية بالمصلحة القومية) ولكن بالضرورة السياسية: فإذا لزم الأمر، يجب أن تصبح السياسة عنيفة تجاه الناس. وهذا يعني أنها ملزمة بالتضحية، والتفريق، وإلحاق الأذى، ويؤدي إلى أن تكون جائرة وقاتلة. لقد أنتج هذا، كما يرى فوكو، سلسلة كاملة من الحلول الإشكالية لهذه المشكلة، يصبح السكان/الناس فيها هم مكمن الخطر، ومصدر قلق دائم يهدد بالانقلاب على الدولة.

إن ما نراه اليوم من ممارسات أمنية في دول العالم أجمع، بلا تفريق بين دولة سلطوية أو ديمقراطية، إذ تلجأ أكثر الدول ادعاءً للديمقراطية لسياسات وممارسات لطالما اتخذتها مثالًا على سلطوية الدول في التعامل مع أعدائها السياسيين؛ وهو طيف يشمل المعارض السياسي كما الطفل المهاجر رغمًا عنه لظروف الحرب، كما يشمل الأقليات الدينية، بل وفي بعض الأحيان المعاقين جسديًا. وعلى العكس مما يذهب إليه فوكو، لا تحيل -هذه الظواهر أو الممارسات- على تراجع في الشكل “الحديث” من السلطة السياسية في العالم، بل إن ما نراه هو عودة للجذور، وتحقق للدولة بكافة ممكناتها التي كانت قد تخلت عنها على مضض تحت ضغط المطالبات الديمقراطية.

إن الدولة كمفهوم مجرد، الذي عرفناها في شكلها الديمقراطي أو التنموي تعود اليوم على أعقابها إلى نشأتها الأولى، حين ترى أن مهمتها الأولى والوحيدة هي الحفاظ على وجودها في مواجهة السكان. لم يعد شغل الدولة الشاغل بسط نفوذها وسلطتها على كل شيء وكل أحد كما تخيلت ديستوبيا جورج أورويل في رواياته، فمد هذه السلطة كان يعني في زمن ما، نزع صفة “الاجتماعي” عن نطاقات الحياة الاجتماعية، وتحويله إلى “قانوني”، ومن ثم مسؤولية تنموية وإدارية تجاه هذه النطاقات.

أما اليوم، فلا تعد المهمة التنظيمية شغلًا ذا بال بالنسبة للدولة، اللهم إلا في الإرث البيروقراطي المتراكم في العصر الحديث والذي آل إليها إدارته بمحض التتابع التاريخي. ففي عالم يدور حول الاقتصاد النقدي، إذا استطاعت الدولة أن تدير ديونها بنجاح، وأبقت على أغنيائها في مواقعهم، تصبح مهمتها الوحيدة المتبقية هي قمع الباقين وجباية الضرائب منهم وفرض التقشف والإجراءات العسكرية ذات الثوب المدني على الحدود وفي الميادين، وهي في هذا الوقت لا تحتاج إلى “منطق” يبرر تصرفاتها شرعيًا، طالما أنها حاضرة وقادرة على فرض وضع ينال فيه الجميع نصيبه من الأزمات والخوف من المستقبل.


عن الكاتب

مصطفى عبد الظاهر، باحث مستقل ومدير وحدة العدالة الجنائية بالمفوضية المصرية .للحقوق والحريات

Leave a Reply