Site icon The Asfari Institute for Civil Society and Citizenship

نواجه الجائحة ونمارس القمع.. كيف استغلت السلطات المصرية
جائحة كورونا للتوسع في انتهاك الحريات العامة؟

محمود عبد الظاهر

في 11 مارس 2020، أعلنت منظمة الصحة العالمية تصنيف انتشار فيروس كورونا المستجد كـجائحة عالمية. وكاستجابة لتبعات الانتشار الوبائي، اتخذت معظم دول العالم إجراءات استثنائية، وفرضت قيود على تحرك المواطنين داخليًا وخارجيًا، في محاولة لكبح الانتشار السريع للفيروس القاتل، والذي لم نكن نعلم عنه الكثير وقتها.

بالتزامن مع الإعلان السابق، بدأت السلطات المصرية في التعامل مع تبعات وصول الانتشار الوبائي لفيروس كورونا المستجد لمصر، فقرر رئيس مجلس الوزراء تعليق جميع الفعاليات التي تتطلب تواجد أو تجمع أعداد كبيرة من المواطنين، وتعليق الدراسة في جميع المدارس والكليات والمعاهد. وصولًا لإجراءات أكثر تشددًا مثل تعليق حركة الطيران الدولي في جميع المطارات، وفرض حظر تجوال مسائي في جميع أنحاء البلاد، ووقف جميع وسائل النقل الجماعي العامة والخاصة. تم تخفيف أو إلغاء هذه القرارات في الشهور التالية بعد استقرار الوضع الوبائي وتراجع أعداد الإصابات، ووصول اللقاحات لمصر، وبدأ تقديمها للمواطنين.

تمثل الإجراءات السابقة تقييدًا لعدد من الحقوق الإنسانية الأساسية، والمُصانة بموجب المعايير الدولية لحقوق الإنسان، والواردة في الدستور المصري نفسه. غير أن هذا التقييد يجد ما يبرره بوصفه تقييدًا استثنائيًا موقتًا، تم اللجوء إليه لحماية حقوق أخرى مثل الحق في الحياة، والحق في الصحة، فضلًا عن مراعاة المصلحة العامة. لكن ومع ذلك لا يمكن مد الخط على استقامته للتعامل مع كل سياسات السلطات في مصر في هذه الفترة. والتي ادعت أنها لجئت إليها للتعامل مع جائحة كورونا، بوصفها تدخلات “مؤقتة” و “ضرورية” للتعامل مع تبعات الجائحة الصحية.

في 6 مايو 2020، نشرت الجريدة الرسمية نص القانون رقم 22 لسنة 2020 والخاص بتعديل بعض أحكام القانون رقم 162 لسنة 1958 والمعروف باسم “قانون الطوارئ”. تضمنت التعديلات الجديدة تعديل مادتين في القانون الأصلي، تعديل المادة الثالثة وهي مادة تعدد الإجراءات والتدابير التي يمكن لرئيس الجمهورية -أو من يفوضه- اللجوء إليها في حالة الطوارئ. وتعديل المادة الرابعة، وهي خاصة بتولي قوات الأمن أو القوات المسلحة تنفيذ قرارات رئيس الجمهورية الصادرة بموجب إعلان حالة الطوارئ.

تضمّن تعديل المادة الثالثة توسيع للصلاحيات الممنوحة للسلطة التنفيذية في حالات الطوارئ وذلك بإضافة 18 بندًا جديدًا لـلمادة القديمة. تستحدث البنود الجديدة إجراءات مثل تعطيل الدراسة جزئيًا أو كليًا، وتعطيل العمل بالمؤسسات العامة أو الخاصة، وإمكانية حظر الاجتماعات العامة والتظاهرات والاحتفالات وغيرها، وإمكانية إلزام القادمين للبلاد من الخارج بالخضوع لإجراءات الحجر الصحي، وإمكانية التحكم في السلع التي قد تكون ذات أهمية في التعامل مع حالات الطوارئ وذلك بحظر تصدير هذه السلع، أو وضع قيود على تداولها، أو نقلها، أو بيعها، أو حيازتها، أو تحديد أسعار بعض السلع والخدمات. وبعض الإجراءات الأخرى المشابهة.

لا يمكن النظر لتوسيع صلاحيات السلطة التنفيذية في حالات الطوارئ كما أوضحت الفقرة السابقة بمعزل عن السياق السياسي لاستخدام حالة الطوارئ في مصر. فقد عاشت البلاد قيد إعلان حالة الطوارئ معظم السنوات التي تلت صدور القانون المنظم لها عام 1958. لذلك لم تلجأ مصر لإعلان حالة الطوارئ مع بدء جائحة كورونا كغيرها من الدول، نظرًا لإنها سارية في البلاد بالفعل بشكل شبه مستمر منذ 9 ابريل 2017.

وإذا كان تعديل المادة 3 من قانون الطوارئ، بإضافة صلاحيات جديدة للسلطة التنفيذية في حالات الطوارئ يمكن النظر إليه على أنه (متسق) مع ما أعلنته الحكومة –التي أعدت مشروع التعديل– وما جاء في التقرير المشترك للجنة الشئون الدستورية والتشريعية، ومكتب لجنة الدفاع والأمن القومي، بمجلس النواب التي اعتبرت أن تعديل القانون “جاءت لصالح الوطن والمواطنين وتركز على حمايتهم من جميع الأخطار التي قد تواجههم في تلك الفترة وكذلك توفير الإجراءات الوقائية لتحقيق أقصى درجات الحماية وعلى الأخص الرعاية الصحية”، فالأمر ذاته لا يستقيم مع تعديل المادة الرابعة من القانون، وهو التعديل الذي يعزز سلطة وصلاحيات العسكريين في مصر.

في نصها القديم، تضمنت المادة الرابعة من قانون الطوارئ قيام قوات الأمن أو القوات المسلحة بتنفيذ أوامر رئيس الجمهورية. وأقرت بإمكانية منح ضباط، وضباط صف القوات المسلحة بدأ من رتبة معينة يحددها وزير الدفاع، سلطة الضبطية القضائية لتنظيم المحاضر للمخالفين لهذه الأوامر، وذلك في حال قيام القوات المسلحة بتنفيذ هذه الأوامر.

خالف التعديل الجديد النص القديم، بمنحه الضبطية القضائية لجميع ضباط، وضباط صف القوات المسلحة دون تمييز في الرتبة، إذا تولت القوات المسلحة تنفيذ أوامر رئيس الجمهورية. وهو ما يمكن وصفه بالتوسع غير المبرر لسلطات رجال القوات المسلحة على حياة وحقوق المواطنين. التعديل نفسه أضاف فقرة جديدة تتضمن اختصاص حصري للنيابة العسكرية بالتحقيق في الوقائع والجرائم التي يتم ضبطها بواسطة القوات المسلحة بغض النظر عن نوعية الجرائم. وبطبيعة الحال فالخطاب هنا موجه للمدنيين. حيث تمارس النيابة العسكرية اختصاصها بالتحقيق في الجرائم التي تقع من العسكريين كاختصاص أصيل. في فقرة تالية أجاز التعديل لرئيس الجمهورية اسناد الاختصاص بالتحقيق في الجرائم التي يتم ضبطها بمعرفة قوات الشرطة المدنية للنيابة العسكرية أيضًا. وفي الحالتين حافظت المادة على أن التصرف النهائي في الدعوى يكون من اختصاص النيابة العامة.

يقول هذا التعديل ببساطة أنه في حالة الطوارئ ستتولى القوات المسلحة ضبط الجرائم والمخالفات، والتحقيق فيها أيضًا بمعرفة النيابة العسكرية. وكذلك التحقيق في الجرائم التي يتم الضبط فيها بواسطة الشرطة المدنية إذا ما قرر رئيس الجمهورية ذلك. المادة بشكلها الحالي تهدر حق المواطنين في مباشرة كل إجراءات المحاكمات والضبط بمعرفة القضاء الطبيعي، وتتوسع في منح سلطات وصلاحيات للقضاء العسكري الذي يُنظر إليه بوصفه جزء من السلطة التنفيذية (يتبع وزارة الدفاع) وبالتالي لا يتمتع بنفس الاستقلالية المفترض وجودها لدى القضاء الطبيعي ولدى النيابة العامة.

بالإضافة لاستغلال السلطة في مصر للجائحة للتوسع في اللجوء لسياسات تشريعية تهدر حقوق المواطنين. مارست السلطة أيضًا تضييقًا على حرية التعبير. لاسيما فيما يتعلق بتوجيه انتقادات للسياسات الرسمية للتعامل مع الجائحة. طال القمع هذه المرة فئات مثل العاملين/ات بالقطاع الصحي، والذين كانوا مطلعين على واقع الجائحة في مصر أكثر من غيرهم. وفقًا للجبهة المصرية لحقوق الإنسان “قبضت قوات الأمن على 7 أشخاص على الأقل ما بين أطباء وصيادلة، ليتم التحقيق معهم وتجديد حبسهم بمعرفة نيابة أمن الدولة ودوائر الإرهاب، وذلك على خلفية انتقادهم لأداء الحكومة فيما يخص الوضع الصحي”. واجه هؤلاء الأشخاص اتهامات بالانضمام لجماعة أسست على خلاف القانون، ونشر وإذاعة أخبار كاذبة هدفها إلقاء الرعب بين الأفراد، وإساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي.

كذلك لاحقت السلطات عدد من الصحفيين/ات، والناشطين/ات بسبب تداولهم لمحتوى صحفي، أو آراء شخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، تخص سياسات الحكومة في التعامل مع الجائحة.  وفي 17 مارس 2020 أغلقت السلطات مكتب صحيفة الجارديان البريطانية في مصر بسبب تقرير نشرته الصحيفة يزعم انتشار فيروس كورونا المستجد في مصر بشكل أكبر مما هو مُعلن عنه في الرواية الرسمية. ووجهت أيضًا  إنذارًا لمراسل صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية ، بسبب نشره مجموعة من التغريدات التي تضمنت نفس المحتوى الموجود في تقرير صحيفة الجارديان.

في سياق أخر. طالت تبعات الجائحة كل مناحي الحياة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية. لكنها لم تكن كافية لوقف أو عرقلة الانتهاكات الممنهجة والمستمرة لحقوق الإنسان في مصر، واستكمال بناء منظومة تشريعية وسياساتية تعزز هذه الانتهاكات. في مطلع شهر مارس 2020، صدر في مصر القانون رقم 14 لسنة 2020 والذي يتضمن تعديل لقانون تنظيم قوائم الكيانات الإرهابية والارهابيين، والقانون رقم 15 لسنة 2020 والذي يتضمن تعديل قانون مكافحة الإرهاب. تضم التعديلات تقنين لمزيد من القيود الاستثنائية على الحقوق والحريات بحجة مكافحة الإرهاب. وهي القيود التي لا تنقص التشريعين بصيغتهما القديمة من الأساس!

بخلاف المسار الذي اتبعته بعض الدول – مثل إيران وإندونيسيا – في تخفيف الاكتظاظ بسجونها، والافراج عن الأشخاص المحبوسين احتياطيًا، أو المدانين بجرائم بسيطة، خوفًا على حياة هؤلاء الأشخاص حال وصول الانتشار الوبائي لفيروس كورونا للسجون. رفضت السلطات المصرية الاستجابة لدعوة المفوضية السامية لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة بالإفراج عن “المعتقلين الإداريين وأولئك الذين يتم احتجازهم بشكل تعسفي بسبب عملهم السياسي أو في مجال حقوق الإنسان”. وهي الدعوة التي وجُهت أيضًا من قِبل عشرات المنظمات الحقوقية المصرية والدولية. قوبلت هذه الدعوات من السلطات المصرية باستمرار حبس مئات من سجناء الرأي والمدافعين عن حقوق الإنسان، وتعريض حياتهم للخطر نظرًا لاستحالة تطبيق الإجراءات الاحترازية مثل التباعد الجسدي في السجون المصرية، والتي تعاني من الاكتظاظ الشديد.

على النقيض، كانت فترة الإغلاق الكلي والحظر فترة معاناة إضافية على كافة السجناء وذويهم، وقد تعرض السجناء والسجينات السياسيين والسياسيات لمزيد من التنكيل بالضرورة، ليتم تقليص مدة الزيارة مع إجراءات أكثر تشديدًا عما قبل الكورونا، والتي مازالت مستمرة بأشكال مختلفة حتى الآن. كان لذلك القمع والتضييق نتائج كارثية، على سبيل المثال هدد عدد من السجناء بالانتحار، ومنهم من حاول الانتحار بالفعل مثل المدون الصحفي محمد إبراهيم أكسجين، ومنهم من مات في السجن في ظل ظروف غامضة مثل المصور شادي حبش. المدون والناشط علاء عبد الفتاح أيضًا قد أرسل رسالة طالبًا فيها من أمه أنا تأخذ العزاء فيه، أي أنه فقد الرغبة في الحياة. علاء عبد الفتاح نفسه دخل في إضراب مفتوح عن الطعام منذ أبريل من العام الجاري، ومازال مستمر حتى وقت كتابة هذه السطور في الإضراب، طالبًا بالسماح بالزيارة القنصلية له لإنه يتمتع بالجنسية البريطانية، في المقابل تتعنت السلطات المصرية في تنفيذ حقه، كما أنها حتى ترفض زيارة محاميه الشخصي له. أيضًا يعاني معظم السجناء من ظروف حبس غير آدمية، مثل المنع من التريض والتعرض للشمس، وعدم الزيارة لوقت مناسب، والمنع من القراءة سواء الجرائد الحكومية أو غيرها أو أي شكل من الكتب، وعدم السماح بامتلاكهم راديو، بالإضافة طبعًا إلى الحبس الانفرادي لبعض السجناء السياسيين.

لم تكن الجائحة كافية لوقف أو تهدئة وتيرة السياسات والتشريعات التي تنتهك الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين/ات، بل كانت الجائحة “حجة” للجوء للمزيد من تلك السياسات والتشريعات. ستنتهي تبعات الجائحة يومًا ما، لكن السياسات والتشريعات المقيدة للحقوق التي تم صكها خلال السنوات الثلاث الماضية لن تنتهي، وستأخذ تلك التشريعات والسياسات مكانها داخل منظومة القمع التي تعمل بشكل مستمر على الانتقاص من الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين والمواطنات في مصر.


عن الكاتب

محمود عبد الظاهر، باحث في مجال حقوق الإنسان. تتركز جهوده البحثية حول أوضاع المدافعين والمدافعات عن حقوق الإنسان وحرية التنظيم.

Exit mobile version