أزمة كهرباء لبنان: تداعيات قاسية على الفئات الأكثر هشاشة وحلول ممكنة

علي نور الدين

لم يتمكّن لبنان، حتّى قبل أن تضربه الأزمة الاقتصاديّة الراهنة، من بناء قطاع كهرباء منتظم، بما يسمح بتأمين التغذية الكهربائيّة على مدر الساعة للمقيمين، وتحقيق التوازن المالي في مؤسسة كهرباء لبنان، أي المؤسسة العامّة التي تشغّل القطاع حاليًّا. فمعامل الكهرباء المملوكة حاليًّا من قبل المؤسسة، والتي تم بناؤها قبل الأزمة، لا تسمح أساسًا بتأمين التغذية الكهربائيّة لكل المقيمين لأكثر من مدّة تتراوح بين 10 و12 ساعة، حتّى لو تم تشغيلها وفق أقصى قدرتها التشغيليّة.

أزمة قطاع الكهرباء التاريخيّة

هذه المسألة، تتصل بنقص الاستثمارات تاريخيًّا في هذا القطاع طوال العقود الماضية، وتهالك بنيته التحتيّة، بالإضافة إلى ضعف كفاءة المعامل وخطوط نقل الكهرباء العاملة حاليًا على الشبكة. ورغم تكرار وضع الخطط التي هدفت إلى التعامل مع هذا الواقع، عبر التخطيط لبناء المعامل الجديدة وإعادة تأهيل الشبكة، لم تدخل أي من هذه الخطط حيّز التنفيذ طوال العقود الماضية، بسبب خلافات السياسيين اللبنانيين على مواقع المعامل، والشركات الخاصّة التي ستنال عقود بناء وتشغيل وصيانة هذه المعامل. مع الإشارة إلى أنّ هذه الخلافات لطالما اتصلت بمحاولة السياسيين الاستفادة من الأرباح الضخمة الناتجة عن هذه العقود، عبر الشركات المحسوبة عليهم.

وهكذا، تأقلم المقيمون –قبل حصول الأزمة الماليّة- مع واقع الاعتماد على خدمات أصحاب المولّدات الخاصّة لتأمين التغذية في ساعات تقنين مؤسسة كهرباء لبنان. وبما أنّ كلفة إنتاج المولدات الخاصّة تتجاوز ضعفي كلفة إنتاج معامل مؤسسة الكهرباء، فالنتيجة كانت تحميل عموم المقيمين تكاليف ضخمة نتيجة هذا الواقع.

الانهيار المالي يفاقم أزمة الكهرباء

إلا أنّ دخول لبنان نفق الانهيار المالي منذ العام 2019، فاقم من سوداويّة المشهد على مستوى قطاع الكهرباء، وزاد أسباب جديدة لتأزّم الوضع. فتغذية مؤسسة كهرباء لبنان تناقصت اليوم إلى مستويات لا تتجاوز الساعتين في اليوم الواحد، أي أنّ شبكة الكهرباء لم تعد حتّى تستفيد من قدرة معاملها الإنتاجيّة القصوى (التي تصل إلى 10-12 ساعة في اليوم كما ذكرنا). أمّا السبب، فيعود تحديدًا إلى حالة التعثّر المالي التي تمر بها مؤسسة كهرباء لبنان، والتي فاقمتها أزمات تدهور سعر الصرف وغلاء أسعار النفط العالميّة، وتعثّر الدولة المالي الذي لم يعد يسمح بدعم القطاع. باختصار، لم تعد مؤسسة كهرباء لبنان تملك اليوم القدرة على شراء الفيول لتشغيل معاملها، وهو ما بات يهدد حتّى بقطع الكهرباء عن المؤسسات الأكثر حيويّة وحساسيّة، كالمطار ومحطات ضخ المياه.

لفهم أسباب الجانب المالي من الأزمة بشكل أفضل، تقتضي الإشارة إلى أنّ لبنان ثبّت منذ العام 1994 تعرفة الكهرباء عن مستويات تبدأ من 138 ليرة لبنانيّة للكيلوواط/ساعة، وتتزايد بحسب مستويات استهلاك المشترك. يومها، كان سعر برميل النفط يتراوح عند مستويات تقارب ال20 دولار للبرميل، في حين أنّ قيمة ال138 ليرة (الحد الأدنى للتعرفة) كانت توازي نحو 9.1 سنت عند احتسابها بالدولار، بحسب سعر الصرف الرائج وقتها. أمّا اليوم، فارتفعت قيمة برميل النفط لتقارب المئة دولار (خام برنت)، بينما باتت تعرفة ال 138 ليرة لا تتجاوز قيمتها ال 0.4 سنت بحسب سعر الصرف اليوم.

هكذا، باتت مؤسسة الكهرباء تحصّل رسوم رمزيّة من المشتركين، بعد أن خسرت التعرفة 95% من قيمتها نتيجة تدهور سعر الصرف، فيما تضاعفت كلفة شراء الوقود بنحو 5 مرّات. قبل العام 2019، كانت مؤسسة كهرباء لبنان تلجأ إلى الدعم الحكومي لتغطية عجزها المالي، إذ تشير أرقام وزارة الماليّة إلى أنّ دعم مؤسسة الكهرباء مسؤول عن تراكم نحو 44.3 مليار دولار من الدين السيادي اللبناني. لكن بعد دخول الدولة في نفق التعثّر، وانعدام قدرتها على الاقتراض بعد حصول الانهيار المالي، لم يعد بإمكان الميزانيّة العامّة تقديم الدعم لمؤسسة الكهرباء على هذا النحو.

لكل هذه الأسباب، توقّف شراء المحروقات لتوليد الكهرباء، وتوقفت المعامل عن العمل، إلا ضمن حدود ضيّقة جدًا لا تؤمّن أكثر من ساعة تغذية للمشتركين في بعض المناطق القليلة، بل وإلى حد الانقطاع التام للكهرباء في الغالبيّة الساحقة من المناطقة اللبنانيّة.

أزمة الكهرباء تستنزف ميزانيّات الأسر اللبنانيّة

بالنسبة إلى عموم المقيمين، عنى هذا التطوّر ارتفاع كلفة خدمات أصحاب المولّدات الخاصّة، نتيجة تزايد فجوة التغذية التي يقتضي ملؤها من خلال كهرباء هذه المولدات. كما ساهم بارتفاع فاتورة أصحاب المولدات الخاصّة الارتفاع السريع في ثمن المازوت المستورد، نتيجة ارتفاع أسعار النفط عالميًّا. وفي الوقت نفسه، كانت قيمة الليرة اللبنانيّة تستمر بتسجيل تراجعات إضافيّة مقابل الدولار الأميركي، ما عنى أيضًا زيادة قيمة الفواتير عند احتسابها بالعملة المحليّة. أمّا الإشكاليّة الأساسيّة هنا، فكانت تمتّع الغالبيّة الساحقة من أصحاب المولدات بحمايات سياسيّة توزّعت بحسب السيطرة الحزبيّة والطائفيّة في كل منطقة، ما أفقد الدولة القدرة على مراقبة الفواتير، والحد من استغلالهم للأزمة لزيادة أسعارهم وأرباحهم.

من الناحية العمليّة، يمكن لاشتراك أصحاب المولدات الخاصّة أن يصل إلى حدود ال 280 دولار أميركي شهريًّا، مقابل تغذية لمدّة 12 ساعة يوميًّا وبتيّار لا يتجاوز حدود ال 10 أمبير. وهذه المبلغ توازي قيمته اليوم نحو 9.24 مليون ليرة لبنانيّة، في حين أن الحد الأدنى للأجور لم يتجاوز –بعد تصحيحه في شهر أيّار الماضي- حدود المليوني ليرة لبنانيّة فقط. ولهذا السبب، بات تأمين الكهرباء، التي كان من المفترض أن يكون تأمينها خدمة عامّة متوفّرة بشكل بديهي، عبئ يستنزف أجور محدودي الدخل ويساهم في حرمانهم من القدرة على تأمين حاجاتها الأساسيّة الأخرى.

وهكذا، بات من المألوف أن تقلّص بعض العائلات حدود استفادتها من تغذية المولّدات الخاصّة إلى أربع أو خمس ساعات في اليوم فقط، لتمكّن من سداد فاتورة هذه الخدمة، فيما لجأت الكثير من العائلات لتقليص منسوب التيّار الكهربائي الذي تستفيد منه، إلى حد لا يكفي حتّى لتشغيل بعض الأدوات منزليّة كالبرّاد أو ماكينات غسل الملابس. وهذه المشاهدات التي تشير إلى حجم الفقر بمعناه الحرفي، أي بمعنى الحرمان من الحاجات الأساسيّة، باتت جزء أساسي من يوميّات الكثير من المناطق الشعبيّة.

وحدها الأسر الميسورة، تمكنت من سد فجوة التغذية الكهربائي عبر تركيب منظومات الطاقة الشمسيّة لتوليد الكهرباء. إلا أنّ هذا الخيار ظلّ محصورًا بفئة محدودة نتيجة ارتفاع سعر صرف الدولار، ما يرفع كلفة هذا النوع من المنظومات المستوردة بالليرة اللبنانيّة. مع الإشارة إلى أن تركيب هذه المنظومات لن يغني الأسر من العودة إلى اشتراكات المولدات الخاصّة، خلال فترات الشتاء التي تقلّص من إنتاجيّة ألواح الطاقة الشمسيّة إلى حد بعيد.

نتائج أزمة الكهرباء على القطاع الصحّي

أمّا القطاع الصحّي، الخارج بدوره من أزمة تفشّي جائحة كورونا وما رافقها من ضغوط قاسية على مستشفيات القطاعين العام والخاص، فبات بدوره ضحيّة أخرى من ضحايا أزمة الطاقة المستجدة. فمستشفى رفيق الحريري الحكومي على سبيل المثال، أحد أكبر المستشفيات العامّة في البلاد، اضطرّ في مراحل معيّنة إلى التوقّف عن تشغيل التكييف في معظم أقسامه، في محاولة لتقليص حاجته للكهرباء. مع الإشارة إلى أنّ المستشفيات الحكوميّة بالتحديد تعاني اليوم من محدوديّة سقوف الإنفاق الممنوحة لها من قبل الدولة، ما يقلّص قدرتها على شراء المحروقات لتوليد الكهرباء عبر مولداتها الخاصّة. ومع تراجع خدمات المستشفيات الحكوميّة، من المرتقب أن تتضرّر شريحة واسعة من الفئات المحدودة الدخل، التي تعتمد في العادة على خدمات هذه المستشفيات.

الحلول المطلوبة لمعالجة الأزمة

علاج الأزمة الراهنة يقتضي العودة لصياغة خطّة متكاملة لقطاع الكهرباء، على أن تبدأ أوّلًا بتصحيح تعرفة مؤسسة كهرباء لبنان، بما يواكب التغيّر في أسعار النفط العالميّة وسعر صرف الليرة إزاء الدولار الأميركي. عندها، سيكون بإمكان المؤسسة أن ترفع من معدلات التغذية إلى حدود تتراوح بين 10 و12 ساعة، بمجرّد الاستفادة من زيادة التعرفة لشراء الفيول اللازم لتشغيل المعامل بطاقتها القصوى.

زيادة التعرفة لن يكون خبرًا سارًا للمقيمين بالتأكيد، لكن فواتير مؤسسة كهرباء لبنان ستظل أقل بنحو 50% من فواتير كهرباء المولدات الخاصّة، التي تفرض حاليًّا فواتير باهظة مقابل تأمين التغذية لنصف ساعات اليوم فقط، أو أقل. وبالتوازي مع تصحيح التعرفة، سيكون على مؤسسة كهرباء لبنان إجراء ما يلزم من خطوات للحد من معدلات الهدر التقني المرتفعة، لتقليص الخسائر الناتجة عن هذا الهدر. وهنا، سيكون بإمكان مؤسسة الكهرباء أن تحافظ على تعرفتها المدعومة بالنسبة إلى شطور الاستهلاك الدنيا، التي تستفيد منها الشرائح الأكثر فقرًا، والتي لا تشكّل عبئًا على ميزانيّاتها. كما سيكون بإمكان المؤسسة فرض زيادات في التعرفة على شرائح الاستهلاك المرتفعة جدًا، لتعويض كلفة هذا الدعم.

إلا أنّ كل ما سبق، يقتضي أولًا وجود ما يكفي من ضغط شعبي باتجاه تصحيح ظروف عمل مؤسسة الكهرباء، بما يفضي إلى فرض هذه الحلول على الطبقة السياسيّة الممسكة بزمام الأمور. فحتّى اللحظة، وكما هو واضح، بات هناك شبكة واسعة من المصالح المرتبطة بعمل أصحاب المولدات الخاصّة، المستفيدين من الأزمة والمحسوبين على أحزاب النظام السياسي، وهو ما يحول دون المضي بهذه الخيارات التي تسمح بمعالجة الأزمة.

ومع استعادة الانتظام المالي في مؤسسة كهرباء لبنان، بعد تصحيح التعرفة، سيكون بإمكان الدولة العمل على استقطاب استثمارات أجنبيّة إلى هذا القطاع، بما يسمح بإنشاء معامل جديدة تبيع الكهرباء لمصلحة مؤسسة كهرباء لبنان. وعندها، سيكون بإمكان لبنان الوصول إلى معدلات تغذية تغطي كامل ساعات اليوم، دون تكبيد الدولة مباشرة كلفة بناء المعامل الجديدة. مع الإشارة إلى أن الوصول إلى هذه المرحلة سيقتضي إجراء بعض الإصلاحات في القطاع، وتحديدًا فيما يتصل بزيادة معدلات الجباية، عبر زيادة نسبة الفواتير المحصّلة، ومكافحة الاعتداءات على الشبكة.


عن الكاتب

علي نور الدين: كاتب وباحث اقتصادي من لبنان، حاصل على ماجستير في العلوم الماليّة من الجامعة اللبنانية الأميركية وليسانس في إدارة الأعمال من الجامعة الأميركيّة في بيروت. متخصص في سياسات إدارة سعر الصرف والأنظمة الماليّة، وأثرها على مستوى تفاوتات .الدخل وتوزع الثروة

Leave a Reply