لينا شنّك
منذ فترة ليست ببعيدة، التقيت برجل يعتبر نفسه أردنياً، ولكنه لا يحمل ما يثبت ذلك على الورق، أي أنه لا يحمل الرقم الوطني الأردني الذي يُميّز المواطن عن غيره
ينتمي هذا الرجل إلى فئة يُطلق عليها فئة “البدون” أو “جماعة البِلا” كما يُطلقون على أنفسهم، لأنهم لا يحملون لا الجنسية الأردنية ولا غيرها، ومعظمهم ممّن كانوا يعملون في تربية الماشية ويرحلون معها أينما رحلت، ولم يعوا ما يعنيه الرقم الوطني إلا بعد استقرارهم وفوات الأوان
في نهاية سبعينيات القرن الفائت، بدأت الحكومة الأردنية بإنشاء السجلات المدنية لكل مواطن. لكي يُعامل الفرد على أنه مواطن أردني، في هذا السياق، كان عليه أن يثبت بأنه قد عاش هو أو أجداده في الضفة الشرقية منذ عشرينيات القرن الفائت أو أنهم ينحدرون من أصول فلسطينية قبل 15 أيار 1948، وعاشوا في المملكة الأردنية الهاشمية في الفترة ما بين كانون الأول 1949 وشباط 1954
وتشمل الأدلة على ذلك الأوراق الضريبية، أو أي وثائق أخرى تثبت بأنهم ذهبوا إلى المدرسة في المملكة أو خدموا في الجيش. بيد أن هناك من لم يتمكن من تقديم هذه الوثائق، وخصوصاً في منطقة البادية، فلجأت الحكومة في حينه إلى ما يُسمى بـ “شهادة الشهود”، إذ كان يُطلب من ثلاثة شهود من المنطقة ذاتها أن يؤكدوا بأن الأفراد المعنيين ينتمون إلى العشيرة الفلانية وقد عاشوا هم أو أجدادهم في البلاد. تزعم الحكومة بأن هناك من لم يستطع تقديم الأدلة الكافية ولم يتمكن من الحصول على الجنسية الأردنية وفق القانون
هكذا وُلدت هذه الإشكالية واستمرت إلى يومنا هذا، فأوجدت عائلات واحدة فيها أخ يحمل الجنسية الأردنية وآخر ينتمي إلى فئة البدون، وأخرى الأم فيها أردنية والأب من فئة البدون، ولا يستطيع الأبناء أن يرثوا جنسية أمهم على الرغم من أن القانون يمنحهم هذا الحق إذا كان أبوهم عديم الجنسية، ولكنهم لم يرثوها حتى في هذه الحالة أيضاً
بحسب التقديرات، يبلغ عدد هؤلاء اليوم ما بين خمسة إلى سبعة آلاف فرد، وقد شكّلت الحكومة لجنة لدراسة طلباتهم للحصول على الجنسية قبل سنوات طويلة إلا أن عملها توقف بعد اندلاع الأزمة السورية، إذ خشيت الحكومة من أن يكون هناك سوريون يستغلون هذه “الثغرة” للحصول على الجنسية الأردنية
على مدار السنين، لم تمنح الحكومة الجنسية إلا لعدد محدود جداً من أبناء هذه الفئة، ومنحت البعض جوازات سفر مؤقتة، ومن ثم تراجعت عن هذه الخطوة واكتفت بمنحهم بطاقات “تحديد السكن” التي يعتبرها أبناء هذه الفئة “عديمة الفائدة”. كل هذه الحلول قاصرة وتظل تميّزهم عن أقرانهم المعترف بهم من قبل الحكومة، فتفرض عليهم قيوداً في التنقل والعمل والصحة والتعليم، فتحرمهم من التأمين الصحي، وتُجبرهم، في كثير من الأحيان، على القبول بظروف عمل صعبة أو الوقوع في مخالفات قانونية، لأنهم لا يملكون خيارات أخرى
حتى مع إدراكه لكل هذه الصعوبات التي دفعت بكثيرين من أبناء هذه الفئة إلى اليأس، عبّر ضيفي في نهاية حديثنا عن شعور مغاير، وقال عبارة مفادها أنه حتماً سيحصل على الجنسية الأردنية يوماً ما، فلطالما فتح الأردن أبوابه أمام “كل العرب” ومنح جنسيته لكثيرين لم تكُن أصولهم بالضرورة من شرق الأردن، وها هم اليوم مواطنون أردنيون يحملون الرقم الوطني، بحسب تحليله
حين عكفت على كتابة قصته، كان عليّ أن أقف أمام عبارته الأخيرة، وأتساءل ما إذا كانت حالمة جداً، خصوصاً إذا ما تذكرنا الرفض الرسمي المستمر لمنح الجنسية لأبناء وبنات الأردنيات المتزوجات من أجانب، والجدل الذي رافق كل عملية تعديل لقوانين الانتخاب والذي عادةً ما يُركّز على مسألة “الهوية” بوصفها الضيّق، وغير ذلك ممّا يخص ملف الجنسية. بيد أنني أدركت بأن ما قاله فيه شيء من الحقيقة، إذا ما فرّقنا بين التمتع بالجنسية من جهة والتمتع بحقوق المواطنة من جهة أخرى
بالفعل، تتنوّع أصول المواطنين الأردنيين، ولا يُمكن أن نحصرها في هذا المقال أساساً، ولا أن نختزلها في ثنائية “الأصول الشرق الأردنية والفلسطينية”، فهناك تنوع حقيقي بسبب أحداث تاريخية وظروف اجتماعية وجغرافية أدت في نهاية المطاف إلى اجتماع كل هؤلاء على أرضه
لطالما درسنا في مناهج التاريخ بأن أول رئيس وزراء في تاريخ الأردن المعاصر هو رشيد طليع، وتعود أصوله إلى قبيلة بني معروف الدرزية في لبنان. جاء، هو وغيره من أبناء القبيلة، إلى إمارة شرق الأردن في زمن تأسيسها وأصبحوا مواطنين أردنيين، وقد استخدمت هذه المعلومة مراراً لإثبات سردية أن الأردن لم يكُن منغلقاً على ذاته، بل كان منفتحاً على كل العرب منذ تأسيسه
وبعد وقوع النكبة في عام 1948، سيطر الجيش الأردني على ما تبقى من مناطق الضفة الغربية، ونصّ قانون الجنسية الأردني على أن يُعتبر أردني الجنسية “كل من كان يحمل الجنسية الفلسطينية من غير اليهود قبل تاريخ 15/ 5/ 1948 ويقيم عادة في المملكة الاردنية الهاشمية خلال المدة الواقعة ما بين 20/ 12/ 1949 لغاية 16/ 2/ 1954″. وفي عام 1950، أعلنت وحدة الضفتين الشرقية والغربية، ليُصبح هناك حكومة واحدة وبرلمان واحد للضفتين إلى أن تم فك هذا الارتباط في عام 1988. هُناك من يُجادل، بطبيعة الحال، بأن منح الجنسية الأردنية للفلسطينيين آنذاك كان خطأ ساهم في إضعاف الوجود الفلسطيني، ولكن لا مجال هُنا لمناقشة أبعاد الموضوع في هذا المقال بالذات
هكذا نجد في الأردن أردنيون من أصول شرق أردنية، وفلسطينية، ولبنانية، وسورية (منهم مثلاً التجار الذين انتقلوا إلى عمّان لغايات تجارية في النصف الأول من القرن الفائت)، ومن تعود أصولهم إلى بلدان أخرى أبعد من ذلك، مثل الشركس الذين قدموا إلى الأردن في عام 1875 على إثر الاضطهاد القيصري في بلادهم الأصلية. كما نجد من كان أجدادهم في طريق عودتهم إلى الحج، ومن ثم استقروا في الأردن، مثل تجار سوق البخارية في وسط البلد، الذين جاؤوا بالأصل من أوزبكستان وفضلوا البقاء بعيداً عن بلادهم التي شهدوا فيها اضطهاداً دينياً بعد الثورة البلشفية
التنوع حقيقي وموجود، ولكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال بأن الجميع سواسية، فمفهوم “المواطنة” ذاته معطّل لأسباب مختلفة. أولاً، هناك اتجاه عام لا يؤمن بالمساواة، ولا يُعير الكفاءة الاهتمام الذي تستحقه مقابل تغليب اعتبارات أخرى مثل “الولاء” بمفهومه الضيّق، و”من تكون” و”من تعرف”، ويعتبر منظرو هذا الاتجاه بأن الولاء يسبق الكفاءة، وكأنهما يستحيل أن يلتقيا. هذا ليس سراً، فقد روى السياسي الأردني مروان المعشر، والذي سبق له أن شغل مناصب رسمية عديدة وأشرف على صياغة “الأجندة الوطنية” التي قدمت رؤية مستقبلية للإصلاح في الأردن، مراراً بأن هُناك من ظل يُحذّر الملك عبد الله الثاني من خطورة تطبيق مبدأ “الكفاءة قبل الولاء” الذي يدعو إليه المعشر
ثانياً، ما يزال أمام الأردن أشواط طويلة للوصول إلى مبدأ “تكافؤ الفرص” وتحقيق العدالة الاجتماعية، فما يزال هناك تمييز واضح على أساس طبقيّ، فمن يُولد فقيراً في الأردن، يعرف حق المعرفة بأن فرصه في الحصول على حياة كريمة محدودة جداً، وإذا ما فعلها واستطاع أن يُجرّبها، وإن كان ذلك لفترة محدودة، فسوف يُصبح “قصة نجاح” تُعرض على الشاشات لتقول “هاكم، لدينا شخص كانت لديه كل مقومات الموت، ولكنه نجا”، ولكن أحداً من المسؤولين لا يخجل من وجود كل مقومات الموت أساساً ويبتسم مع الناجي احتفالاً بنجاته
نرى آثار هذا التمييز في غياب العدالة في قطاعات التعليم والصحة والسكن وفرص العمل، فكلها مرتبطة بالقدرة الاقتصادية وقدرة الأهالي على إنقاذ أبنائهم. قبل سنتين، توفيت طفلة أردنية بسبب انفجار الزائدة الدودية، وذلك لتأخر عملية استئصال الزائدة بعد أن عجز أفراد عائلتها عن إيجاد سرير لها في المستشفى الحكومي الذي قصدوه وعدم استحقاقهم التحويل إلى مستشفى آخر، كونهم لا يتمتعون بأي تأمين صحي، وما هذه الحادثة إلا مثال بسيط على غياب العدالة الاجتماعية، وأرشيف الصحف مليء بقصص مشابهة وتقارير تستجدي التغيير
ثالثاً، هُناك تمييز آخر على أساس الجنس في القوانين والممارسات، ومن ذلك مثلاً التمييز الواضح في قانون الجنسية الأردني، الذي ما يزال يحرم المرأة الأردنية المتزوجة من أجنبي من توريث جنسيتها لأبنائها وبناتها، بينما يُعطي هذا الحق للرجل الأردني الذي يتزوج من أجنبية. أبناء هذا الرجل الأردني، الذي اختار أن يتزوج من غير جنسيته، يعيشون حياة أسهل بكثير من أبناء المرأة الأردنية التي تختار الأمر ذاته، فالأخيرون يُعاملون معاملة الأجانب في بلد أمهم، ويقول لهم المعارضون لهذا الحق، من مسؤولين سابقين وحاليين ومواطنين عاديين، بصريح العبارة بأن لديهم بلداً آخر أولى بهم، هو بلد والدهم، وأن بإمكانهم التمتع بجنسية والدهم بكل سهولة
خلاصة القول بأن الرجل الذي التقيت به في منطقة حدودية مع سورية، والتي تأوي لاجئين سوريين قدموا إلى الأردن بعد اندلاع الثورة فأقام بعضهم لدى أقاربهم الأردنيين، محق في جزئية واحدة فقط. بالفعل، استضاف الأردن الناس بأصولهم المختلفة، ومنحهم الجنسية، فإن كان يريد الجنسية فقط، فلربما هي بالفعل ليست من سابع المستحيلات، ولكن إن كان يطمح بالمساواة، فسيكون عليه عندها أن ينضم لملايين الأردنيين الذين يحلمون بالشيء ذاته
عن الكاتبة
لينا شنك، كاتبة وصحفية أردنية مهتمة بقضايا العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان
Leave a Reply