علي نور الدين
يختلف الانهيار المالي الذي يعيشه لبنان منذ أواخر العام 2019 عن الغالبيّة الساحقة من الأزمات الاقتصاديّة التي ضربت دول مختلفة في العقود الأخيرة، وتحديدًا من جهة شموليّته وأبعاده المتعددة. فهذا الانهيار طال من جهة أولى انتظام القطاع المالي، بما أدّى إلى تعثّر المصارف وتمنّعها عن السداد للمودعين. كما طال في الوقت نفسه قيمة العملة واستقرار سوق القطع، وهو ما انعكس على شكل تعدد في أسعار الصرف وانهيار سريع في قيمة الليرة. وبالإضافة إلى كل ذلك، طال الانهيار انتظام الميزانيّة العامّة وقدرة الدولة على الإيفاء بالتزاماتها، ما أدّى إلى امتناعها عن دفع سندات اليوروبوند منذ آذار 2020، وتوقفها عن تقديم أبسط الخدمات العامّة المطلوبة منها
فرادة الأزمة وقسوتها
هذا النوع من الانهيارات الشاملة، الذي يطال العملة والمصارف والميزانيّة العامّة في وقت نفسه، لم يكن مألوفًا في تاريخ الأزمات الاقتصاديّة، وهذا تحديدًا ما دفع البنك الدولي لاعتبار الأزمة الاقتصاديّة اللبنانيّة الراهنة إحدى أسوأ ثلاث أزمات ماليّة مرّت منذ أواسط القرن التاسع عشر. وللتأكيد على ذلك، تكفي الإشارة إلى أنّ البلاد خسرت 67% من حجم ناتجها المحلّي بين عامي 2018 و2021 دفعة واحدة، ليقتصر حجم الناتج اليوم على نحو 18.08 مليار دولار. وبذلك، خسرت البلاد ما حققته من نمو اقتصادي طوال 20 عامًا، ليعود حجم الناتج المحلّي كما كان بالضبط في مطلع هذا القرن. أمّا حصّة الفرد من الناتج المحلّي، فعادت كما كانت قبل العام 1994، ليخسر المقيمون كل تراكمات حصّة الفرد من الناتج طوال 28 سنة
تفشّي الجائحة وانفجار المرفأ يفاقمان آثار الانهيار
وإلى جانب كل أزمات النقد والمصارف والماليّة العامّة، جاءت أزمة جائحة كورونا ابتداءً من الربع الأوّل من العام 2020، وما رافقها من حالات إقفال عام، وضغوط قاسية على القطاع الطبّي. وفي المحصّلة، أدّى تفشّي الجائحة إلى ضرب القطاع السياحي بشكل كبير، والذي مثّل أبرز المصادر التي كانت متبقية في ذلك الوقت لرفد السوق بالعملة الصعبة، من خلال زيارات المغتربين والسيّاح الأجانب إلى لبنان. ونتيجة تفشّي الجائحة وموجات الإقفال العام التي رافقته منذ شهر آذار 2020، ظلّ القطاع السياحي يسجّل خسائر بلغت قيمتها نحو نصف مليار دولار شهريًّا، إلى أن بدأت البلاد بالخروج تدريجيًّا من حالة الإقفال العامّة
ثم سرعان ما جاء انفجار مرفأ بيروت في آب 2020، بخسائر اقتصاديّة تراوحت قيمتها بين 6.7 و8.1 مليار دولار، وفقًا لأرقام البنك الدولي. وهذه الخسائر، لم تنتج عن الأضرار الماديّة التي طالت المرفأ فقط، وما نتج عنها من ضمور في حركة هذا المرفق الحيوي، بل نتجت أيضًا عن تهشيم الدورة الاقتصاديّة في المناطق المحاذية للمرفأ، وإقفال المؤسسات التجاريّة والسياحيّة إثر تضررها من الانفجار. أمّا الإشكاليّة الكبرى، فكانت فقدان الدولة للقدرات الماديّة التي تسمح لها بالتدخّل، سواء للنهوض بالمناطق والقطاعات المتضرّرة، أو للشروع بعمليّة إعادة إعمار المرفأ نفسه
الرؤية الاقتصاديّة التي لم تولد
كل هذه الضربات المتتالية، التي أجهزت على مقدّرات الدولة وعملة البلاد ونظامها المالي، وأنهكت نظامها الصحّي ودمّرت أحد أبرز مرافقها العامّة، دفعت البلاد إلى حالة سقوط مالي واقتصادي حر. ولهذا السبب بالتحديد، كان من المفترض أن تشرع الدولة اللبنانيّة بوضع رؤية اقتصاديّة شاملة، تعيد النظر بأسس الاقتصاد اللبناني، والقطاعات التي ينهض بها، وبدور الدولة في إنهاض هذه القطاعات. وانطلاقًا من هذه الرؤية، كان من المفترض أن يتم التأسيس لاستراتيجيّة الخروج من الانهيار، بحيث يتم إعادة بناء القطاع المالي بما يخدم هذه الرؤية الاقتصاديّة المستقبليّة، وبحيث يتم التخطيط لإعادة هيكلة الميزانيّة العامّة بحسب أولويّات الإنفاق والبنية التحتيّة التي تتطلّبها هذه الرؤية، وبحسب القطاعات التي يجب أن تستفيد من الدعم الرسمي. وحتّى المسائل المرتبطة بنوعيّة نظام القطع ووظائف المرفأ الاستثماريّة، كان من المفروض أن ترتبط بهذا المسار
لكن كما هو معلوم، لم تعمل الدولة اللبنانيّة منذ أواخر العام 2019 على أي رؤية اقتصاديّة شاملة من هذا النوع، بل لم تسع حتّى إلى وضع أي تصوّر لبناء اقتصاد مختلف أو بعيد عن النموذج الاقتصادي الذي أدّى إلى الانهيار الذي شهدناه اليوم. وفي النتيجة، اقتصرت المعالجات والمساعي الرسميّة على التفكير بمقاربات محاسبيّة تركّز على معالجة كتلة الخسائر المصرفيّة حصرًا، ربما لاتصال النموذج الاقتصادي القائم بامتيازات كبار النافذين في النظامين المالي والسياسي
ولمحاولة إنجاح المقاربات المحاسبيّة التي تم تبنيها، تم حصر الرهانات منذ حصول الانهيار بدخول برنامج قرض صندوق النقد، في محاولة للحصول على شهادة حسن سلوك من الصندوق، ومن ثم التمكّن من التفاوض مع سائر الدائنين لإعادة هيكلة الدين العام واستعادة التحويلات إلى النظام المصرفي والعودة إلى أسواق المال الدوليّة
تعثّر مسار صندوق النقد
ومن الناحية العمليّة، يمكن القول إن وصفات صندوق النقد غالبًا ما تكون مقلقة بالنسبة للفئات الشعبيّة، لاتصالها بشروط قاسية تبدأ بالتقشّف وتقليص حجم القطاع العام، وتنتهي بالخصخصة وتحرير سعر الصرف. لكن في حالة لبنان، ونظرًا لعدم وضع السلطة لأي بدائل غير مسار التفاهم مع الصندوق، وبعد أن باتت كلفة السقوط الحر أكبر من أي وصفة أخرى، بات نجاح الاتفاق مع صندوق النقد المسألة الوحيدة التي ينتظرها معظم اللبنانيون لتجاوز الأزمة القائمة. كما تجدر الإشارة إلى أنّ السلطة في لبنان قامت أساسًا بمعظم الإجراءات القاسية على المستوى الشعبي، التي كان من الممكن أن يطلبها الصندوق، كرفع الدعم وتجميد زيادات الأجور مثلًا، ما قلّص من خشية اللبنانيين من مسار التفاهم مع الصندوق
لكن حتّى في ما يتصل بمسار الاتفاق مع صندوق النقد، والخطط الماليّة التي جرت مناقشتها مع الصندوق، لم يتمكّن لبنان من تحقيق أي تقدّم يُذكر، باستثناء إنجاز التفاهم المبدئي على مستوى الموظفين بين وفد الحكومة اللبنانيّة وبعثة الصندوق، والذي لم يتحوّل إلى اتفاق نهائي لعدم تمكن البلاد من تحقيق الشروط التي طلبها الصندوق. مع الإشارة إلى أنّ شروط صندوق النقد التي لم ينفّذها لبنان تتصل بشكل أساسي بمصالح النافذين في النظامين السياسي والمالي، وتحديدًا فيما يرتبط بتدقيق الميزانيّات المصرفيّة، وتحديد تراتبيّة واضحة لتوزيع الخسائر المصرفيّة بما يحمّل هذه الخسائر للرساميل المصرفيّة بالدرجة الأولى. كما حاولت المنظومة السياسيّة الالتفاف على بعض شروط الصندوق، وخصوصًا تلك التي تتصل بتعديل قانون سريّة المصارف
ولهذا السبب، باتت جميع سبل الحل مقطوعة ومتعذّرة في لبنان، سواء فيما يتصل بإمكانيّة وضع خطط طموحة تبحث عن نموذج اقتصادي جديد ومستدام، أو تلك الأكثر تواضعًا التي تقتصر على الرهان على معالجة الخسائر المصرفيّة والعودة لأسواق المال بالاتفاق مع صندوق النقد. وفي الحالتين، باتت مصالح النظام وكبار النافذين سياسيًّا وماليًّا هي ما يحول دون سلوك سبل الحل هذه
أزمة النظام السياسي
من الناحية العمليّة، يمكن القول إن ثمّة جانب أساسي من المشكلة مرتبط بطبيعة النظام السياسي، الذي لا يملك المصلحة ولا النيّة في الشروع بالإصلاحات الجديّة التي يمكن أن تخرج البلاد من الأزمة. فكما هو معلوم، تتشابك في لبنان وبشكل وثيق مصالح المنظومة السياسيّة مع النخبة الماليّة المهيمنة على الاقتصاد اللبناني، وهو ما يدفع أركان النظام السياسي لعرقلة أي مسعى يمكن أن يمس بالأسس التي لطالما قام عليها الاقتصاد اللبناني، والتي أدّت فعليًّا إلى حالة الانهيار التي نعيشها. وهذا تحديدًا ما شهده اللبنانيون من خلال تمنّع السلطة عن تنفيذ بعض الإصلاحات البديهيّة، كتعزيز استقلاليّة القضاء لإعطائه المساحة لمكافحة الإثراء غير المشروع والجرائم الماليّة، أو إصلاح النظام الضريبي لمنع كبار المتمولين من التهرّب الضريبي
ومن ناحية أخرى، تساهم طبيعة النظام السياسي، القائمة على توازنات طائفيّة حسّاسة وقوى مرتبطة بحسابات إقليميّة، في الحؤول دون وجود قيادة سياسيّة قويّة ومبادرة، قادرة على الشروع بإعادة هيكلة الاقتصاد المحلّي على أسس جديدة. ولهذا السبب بالتحديد، ساهمت النزاعات بين القوى الطائفيّة في تكرار ظاهرة الفراغ الحكومي وتأخّر تشكيل الحكومات، كما يحصل اليوم، رغم قسوة الأزمة الاقتصاديّة التي تفرض وجود سلطة تنفيذيّة مكتملة الصلاحيّات قادرة على لجم الانهيار
ضرورة البرنامج الاقتصادي الاجتماعي
المطلوب اليوم، للخروج من حال المراوحة هذه، وضع برنامج اقتصادي اجتماعي متكامل، من قبل الفئات الأكثر تضرّرًا من حال الانهيار القائم وواقع السقوط الاقتصادي الحر. وهذه الفئات تشمل حتمًا الروابط والجمعيّات التي تمثّل المودعين، والنقابات العمّاليّة ونقابات المهن الحرّة التي تمثّل الشرائح المتضرّرة من تدهور سعر الصرف وتراجع تغطية صناديق التغطية الصحيّة، بالإضافة إلى الأطر الأخرى التي تمثّل سائر أصحاب المصلحة. ومن هنا، سيكون بإمكان هذه الشرائح أن تبدأ بالضغط باتجاه ترجمة هذا البرنامج في خطّة نهوض اقتصادي تتبناها الدولة اللبنانيّة، وتعتمدها للتفاوض مع صندوق النقد، بما يسمح بسلوك مسار التعافي المالي أولًا، وحماية المجتمع من تداعيات الانهيار ثانيًا
عن الكاتب
علي نور الدين: كاتب وباحث اقتصادي من لبنان، حاصل على ماجستير في العلوم الماليّة من الجامعة اللبنانية الأميركية وليسانس في إدارة الأعمال من الجامعة الأميركيّة في بيروت. متخصص في سياسات إدارة سعر الصرف والأنظمة الماليّة، وأثرها على مستوى تفاوتات .الدخل وتوزع الثروة
Leave a Reply