الضغوط التضخميّة في لبنان ومعدلات الفقر المدقع: حاجة ماسة لسياسات حمائية للفئات الأكثر هشاشة

علي نور الدين

منذ بداية العام الحالي، تقاطعت عوامل عدّة على مستوى الأسواق العالميّة ككل والسوق المحلّي اللبناني، لتفاقم من الضغوط التضخميّة التي تشهدها أسعار السلع الاستهلاكيّة في لبنان، وخصوصًا السلع الأساسيّة التي لا يمكن الاستغناء عنها. فبحسب أرقام مؤشّر أسعار المستهلك الذي تنشره إدارة الإحصاء المركزي في لبنان، ارتفع هذا المؤشّر بنسبة 168.45% خلال شهر يوليو/تمّوز الماضي، مقارنةً بالفترة نفسها من العام الماضي. وخلال الأشهر السبعة الأولى من هذا العام، بلغ تضخّم الأسعار حدود ال 50%، ما يشير إلى قسوة الضغوط التضخّميّة خلال هذا العام تحديدًا.

معدلات تضخّم قياسيّة
لم يشهد لبنان مستويات التضخّم القاسية هذه منذ بدء الأزمتين؛ النقديّة والماليّة عام 2019، إذ لم يتجاوز معدّل التضخّم السنوي حدود ال 154.8% خلال العام الماضي، كما لم يتجاوز مستوى ال 84.9% خلال العام 2020، رغم أن البلاد شهدت خلال العامين الماضيين نفس التدهور الحاصل اليوم في سعر الصرف. هذا التحوّل بالتحديد، يشير إلى أنّ ثمّة ظروف استجدّت خلال الأشهر الماضية، بما أفضى إلى تفاقم معدلات التضخّم على هذا النحو، قياسًا بالسنوات الماضية.

أمّا الدخول في تفاصيل السلع التي قادت معدلات التضخّم للارتفاع، فتظهر معطيات خطيرة. إذ قاد ارتفاع أسعار السوق بند الإنفاق على السلع الغذائيّة، التي ارتفع ثمنها بنحو 240% خلال فترة سنة واحدة، فيما ارتفعت كلفة الخدمات الصحيّة بنحو 284%، وكلفة النقل بنسبة 353%. أمّا كلفة الخدمات الأساسيّة، التي تشمل الماء والغاز والكهرباء والمحروقات، فارتفعت بنسبة 110%. أثر الارتفاع في الأسعار على الأسر الأشد احتياجًا والأشد فقرًا والأسر محدودة الدخل، خاصة أن الزيادة في الأسعار جاءت كلها مرتبطة بالسلع والخدمات الحيوية والضرورية التي لا يمكن الاستغناء عنها.

أثر الضغوط الخارجيّة
كانت معدلات التضخم العالمية أبرز العوامل الخارجيّة، التي قادت أسعار السوق المحليّة إلى الارتفاع، فقد وصلت معدلات التضخم إلى حدود ال 9.4% في الأسواق الناشئة في شهر نيسان/أبريل الماضي. فمع انحسار وباء كورونا ورفع القيود على حركة الأفراد وخروج الأسواق من حالات الإقفال الشاملة، ارتفع الطلب بشكل سريع على السلع الأساسيّة في جميع أنحاء العالم، ما رفع أسعارها بشكل قياسي نتيجة عدم تأقلم سلاسل التوريد مع معدلات الطلب المرتفعة. مع الإشارة إلى أنّ معدلات التضخّم التي تشهدها الأسواق الناشئة هذه السنة بلغت أعلى مستوى لها منذ العام 1995، ما يدل بشكل صريح على قسوة الضغوط الخارجيّة.

لعلّ أبلغ دليل على هذه الضغوط التضخميّة الخارجيّة التي استجدّت هذا العام، يتمثّل في أسعار المحروقات. إذ يسجّل سعر برميل نفط خام برنت مستويات تتجاوز ال100 دولار في الوقت الحالي، في مقابل متوسّط سنوي لم يتجاوز ال70.68 دولار خلال العام الماضي، ونحو 41.96 دولار فقط خلال العام 2020. وكما هو معلوم، حين ترتفع أسعار النفط، ترتفع معها أسعار السلع في الأسواق، نظرًا لدخول كلفة المحروقات في تكاليف التصنيع والشحن والتشغيل. وهكذا، كانت السوق اللبنانيّة تعاني من ارتفاع أسعار السلع المستوردة بالعملة الصعبة، في ظل ارتفاعات قيمة الدولار مقابل الليرة اللبنانيّة.

في ظل هذه الظروف الصعبة، جاءت مؤخّرًا الحرب الأوكرانيّة، والتي فاقمت من أزمة تضخّم الأسعار العالميّة، وخصوصًا فيما يتصل بأسعار الحبوب، والمواد الغذائيّة، والنفط، والغاز. فروسيا وأوكرانيا تمثّلان أبرز مصادر الحبوب –وخصوصًا القمح- المصدّرة إلى دول العالم، وهو ما أدّى إلى تعثّر سلاسل توريد هذه المواد وارتفاع أسعارها بمجرّد اندلاع الحرب. كما أدّى تقليص كميّات الغاز المتدفّق من روسيا إلى أوروبا، وفرض عقوبات على النفط المصدّر من روسيا، إلى ارتفاعات إضافيّة في أسعار المحروقات على مستوى العالمي. هكذا، تأثّرت السوق المحليّة اللبنانيّة مجددًا بشكل كبير بكل هذه التطوّرات التي حصلت في النصف الأوّل من العام 2022.

نتائج تدهور سعر صرف الليرة
بالإضافة إلى كل هذه العوامل الخارجيّة، استمرّت العوامل المحليّة الضاغطة على حالها. فسعر صرف الدولار مقابل الليرة في السوق الموازية، ارتفع ليلامس حدود ال 34 ألف ليرة مقابل الدولار، مقارنة ب 19,175 ليرة للدولار في الفترة ذاتها من العام الماضي. بمعنى آخر، ارتفعت قيمة الدولار في السوق الموازية بنسبة 77% خلال سنة واحدة، وهو ما عنى تلقائيًّا ارتفاع أسعار السوق التي تعتمد بشكل أساسي على السلع المستوردة. وتجدر الإشارة إلى أنّ رفع الدعم التام عن جميع السلع الأساسيّة (باستثناء الطحين)، أدّى تلقائيًّا إلى ربط أسعارها بتقلّبات سعر صرف الليرة في السوق، وهو ما فاقم من أثر تقلبات سعر الصرف على أسعار السوق.

ومن الناحية العالميّة، أدّت معدلات التضخّم العالميّة وارتفاع كلفة الاستيراد بالعملة الصعبة، إلى زيادة الطلب على دولارات السوق الموازية لغايات الاستيراد، وهو ما زاد من الضغوط النقديّة وفاقم تدهور سعر صرف الليرة. وهكذا، دخلت السوق المحليّة في دوّامة تضخميّة تقاطعت فيها آثار ارتفاع أسعار السلع في الخارج، وتراجع سعر صرف الليرة في السوق المحليّة.

خطوات لحماية الفئات الأكثر هشاشة
أمّا النتيجة الطبيعيّة لكل هذه التطوّرات، فهي تراجع القدرة الشرائيّة لمحدودي الدخل، في ظل غياب أي تصحيح شامل للأجور حتّى اللحظة. وتراجع القدرة الشرائيّة، سيعني في المقابل تزايد نسبة الفئات القابعة تحت خط الفقر، أو تحت خط الفقر المدقع، بالنظر إلى تراجع قدرتها على تأمين أبسط الحاجات الأساسيّة. وهذا تحديدًا ما أشارت إليه منظمة الإسكوا، التي حذّرت في آخر تقاريرها من ارتفاع نسبة الذين يعيشون في فقر متعدد الأبعاد إلى نحو 82%.

خلاصة الأمر، ولحماية الفئات الأكثر هشاشة في ظل هذا الانهيار، يُفترض أن تقوم الحكومة اللبنانيّة بتضمين خطّتها للتعافي المالي رؤية متكاملة لحماية شبكات الحماية الاجتماعيّة ذاتها، بما يؤمّن الحاجات الحسّاسة للفئات المحدودة الدخل، وخصوصًا تلك المرتبطة بالخدمات الصحيّة والتعليميّة ومتطلبات الأمن الغذائي. كما يُفترض أن تأتي هذه الرؤية ضمن مسار متكامل لإعادة التوازن إلى الماليّة العامّة، بما يسمح بتأمين الموارد الماليّة بشكل مستدام لهذه الغاية. ومع تكامل الإدارة الماليّة ورؤية حماية شبكات الحماية الاجتماعيّة، على المصرف المركزي أن يعمل بالتوازي على مسار خاص لإعادة الانتظام لسوق القطع، وحماية العملة المحليّة من التقلّبات السريعة، وهو ما من شأنه حماية القدرة الشرائيّة للرواتب والأجور.

وعلى هامش كل هذه الخطوات، على لبنان أن يسرّع العمل على أدوات الدعم المباشر، وخصوصًا تلك التي تُعنى بتأمين المساعدات الماليّة الطارئة عبر البطاقة التمويليّة، مع إنجاز أطر الحوكمة التي تكفل الإدارة الشفّافة والنزيهة لهذه المساعدات. تجدر الإشارة إلى أنّ بعض القروض الدوليّة الميسّرة التي يمكن أن تموّل هذه المساعدات مازالت عالقة، بانتظار إنجاز السلطة التنفيذيّة بعض شروط أطر الحوكمة، لضمان حسن إدارة المساعدات وعدم تأثّرها بعوامل الزبائنيّة السياسيّة والهدر الإداري.

أمّا دور جمعيّات المجتمع المدني، فيكمن أن يتنوّع ما بين مراقبة أطر الحوكمة والإدارة لبرامج المساعدات الرسميّة، لضمان نزاهتها وشفافيّتها، وتقديم ما يلزم من بيانات تتعلّق بالشرائح الأكثر حاجة لهذه المساعدات. كما بإمكان الجمعيات التي تعمل أساسًا في مجال تقديم المساعدات التنسيق مع المؤسسات الحكوميّة، لضمان تكامل مساعدات الجمعيات مع برامج الدعم الحكوميّة. وجميع هذه المساعدات ستبقى طبعًا مجرّد معالجات مؤقّتة وموضعيّة، بانتظار السير بخطة التعافي المالي المتكاملة، التي تضع الاقتصاد اللبناني على طريق النهوض.


عن الكاتب

علي نور الدين، كاتب وباحث اقتصادي من لبنان، حاصل على ماجستير في العلوم الماليّة من الجامعة اللبنانية الأميركية وليسانس في إدارة الأعمال من الجامعة الأميركيّة في بيروت. متخصص في سياسات إدارة سعر الصرف والأنظمة الماليّة، وأثرها على مستوى تفاوتات الدخل وتوزع الثروة.

Leave a Reply

Discover more from The Asfari Institute for Civil Society and Citizenship

Subscribe now to keep reading and get access to the full archive.

Continue reading