كريم أبو الروس
تعرض العالم قبل عامين إلى جائحة كورونا، وأثرت على الحياة البشرية بأكملها. لم تسلم منها معظم الدول حتى تلك التي تمتلك قطاعًا صحيًا قويًا قادرًا على التعامل مع أزمة طوارئ صحية عالمية. خلقت الجائحة في السياق الفلسطيني حالة من الصدمة وغياب اليقين حول طبيعة التعامل معها خاصة في قطاع غزة الذي يقبع تحت عزل وحصار منذ أكثر من ستة عشر عامًا. على الرغم أن مفاهيم الحجر وحظر التجول ليست جديدة على العقل الغزي فقد شكلت هذه المفاهيم بمدلولها الطبي قلقًا وخوفًا متزايدًا للغزيين والسلطات القائمة ليس فقط لعدم امتلاك الخبرة في التعامل مع هكذا أزمة، بل أيضًا لعدم وجود مساحات آمنة لعزل المصابين ولا أماكن متاحة في المستشفيات لإيواء المصابين وحجرهم.
حصار داخل الحصار
لم يكن مفهومًا للغزيين كيف أنهم سيجلسون في منازلهم بسبب إجراءات الحجر الصحي الشامل، والذي يعتبر بمثابة سجن وحصار إضافيين وأعباء إضافية لما يعايشونه بشكل يومي. يعتبر قطاع غزة من الأماكن الأكثر اكتظاظًا بالسكان في العالم. يعيش أكثر من مليونين فلسطيني في مساحة لا تتجاوز 360 كيلو متر مربع، وتفرض السلطات الاسرائيلية على هذه البقعة الجغرافية التي تقع في الجنوب الغربي لفلسطين حصارًا بريًا وجويًا وبحريًا منذ سنوات طويلة قاربت على الستة عشر سنة. حيث لا يسمح لأحد بالمرور من وإلى غزة وتتحكم السلطات الاسرائيلية بقدرة الغزيين على العيش في هذه المساحة الجغرافية من خلال سياسات التحكم الاقتصادية والتجارية. ينسحب ذلك أيضًا على المستلزمات الطبية والمواد التموينية والوقود والغذاء عبر المعابر. يمكن وصف قطاع غزة بأنه سجن بلا سقف. تشترك السلطات المصرية أيضًا مع سلطات الاحتلال في إدارة هذا الحصار على قطاع غزة، حيث إن المعبر الوحيد الذي لا يخضع لسلطة الاحتلال هو معبر رفح الحدودي بين مصر وقطاع غزة، وتغلقه السلطات المصرية معظم الوقت دون السماح بخروج الفلسطينيين من قطاع غزة سواء لتلقي العلاج أو لأغراض التعليم أو غيره.
لم يكن قطاع غزة بعيدًا عن تأثيرات الجائحة، فقد اتخذت السلطات الصحية في قطاع غزة مجموعة من الإجراءات الوقائية لتجنب وصول الفيروس إلى داخل القطاع من خلال حجر كل القادمين إلى القطاع في مرافق صحية غير مناسبة بما فيه الكفاية، وعلى الرغم من عدم قدرتها على إيجاد أماكن صحية مناسبة وكافية في ظل انعدام القدرات والمساحات والموارد إلا أنها استطاعت أن تؤخر دخول الفيروس إلى القطاع عدة أشهر. بينما كان العالم يواجه فيروس كورونا بطرق مختلفة ومتعددة ويجرب ويغير في سياساته الوقائية كانت السلطات الصحية في غزة تستفيد من التجارب مع اختلاف السياق والقدرات وأهلية القطاع الصحي للتعامل مع هذا النوع من الأزمات.
قطاع صحي يلفظ أنفاسه الأخيرة
يعاني القطاع الصحي في قطاع غزة من حالة انهيار متواصل ومتراكم ولم يستطع حتى هذا الوقت التعافي من كمية الأزمات التي عانى منها وعاشها. عاشت غزة خمسة حروب متتالية أفقدت القطاع الصحي القدرة على العمل بشكل كامل وطبيعي، إضافة إلى المعاناة المستمرة في توريد الأجهزة الطبية والمعدات والاسعافات وتطوير المرافق الصحية والطبية. شكلت جائحة كورونا حملًا ثقيلًا وكبيرًا على القطاع الصحي في غزة بدءً من عدم توافر أماكن كافية للمصابين في المرافق الصحية وانتهاءًا بعدم وجود المستلزمات الطبية كفحوصات كورونا.
يوجد في القطاع 34 مستشفى، بقدرة 3049 سريراً، تدير وزارة الصحة منها 2343 سريراً وتصل نسبة إشغال مشافي القطاعين الخاص والعام إلى 95%، كما يوجد 93 جهاز تنفس صناعي لدى الوزارة 70% منها مشغولة للمرضى العاديين، ويمنع الاحتلال إدخال أجهزة ومعونات طبية، بما يجعل من مواجهة فيروس كورونا مهمة شديدة الصعوبة والخطورة، وفق إفادة سلامة معروف رئيس المكتب الإعلامي الحكومي، والناطق باسم وزارة الصحة الدكتور أشرف القدرة.
تقاطعت الحروب المتتالية على غزة مع الجائحة في ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية صعبة، أفقدت صانع القرار الفلسطيني القدرة على التنسيق بين مختلف الأجهزة والإدارات الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث شكل الانقسام الفلسطيني المستمر منذ أكثر من ستة عشر عاما عبئًا ومشكلة في التعامل مع الجائحة وسوء تنسيق بين الحكومتين في الضفة الغربية وقطاع غزة.
اقتصاد مشلول ومشوه
بالإضافة إلى كل الصعوبات الحياتية وتحت الحصار المستمر يملك قطاع غزة أكبر نسب البطالة على مستوى العالم. حيث يوجد أكثر من ربع مليون عاطل عن العمل منهم 100 ألف خريج جامعي لم يحصل على فرصة عمل ولو لمرة واحدة في حياته. لذا فإن وصف الاقتصاد الفلسطيني وخاصة في غزة بأنه اقتصاد مشلول ومشوه يبدو منطقيًا قبل الجائحة.
أما بعد الجائحة: فقد اختفى هذا الاقتصاد فجأة وصار حتى الذين يعملون في غزة بلا عمل. أضافت هذه الأزمة عبئًا إضافيًا على الاقتصاد الفلسطيني، حيث توقفت كل القطاعات الاقتصادية وأصيبت بشلل تام مثل قطاع السياحة والصناعة والخدمات. بجانب توقف الكثير من الأنشطة الاقتصادية كالمقاهي، والمطاعم، والفنادق، والأسواق. كان قطاع السياحة أكثر القطاعات تضررًا حيث يبلغ عدد العاملين فيه في قطاع غزة أكثر من 8700 عامل. إلى جانب ذلك، تضرر قطاع النقل والمواصلات بسبب توقف الجامعات والمدارس والحياة اليومية للناس بسبب سياسات الحظر العام.
كيف مارس المحاصرون حياتهم في الحجر الصحي العام
يبدو صعبًا تخيل الحياة بعكس الحصار، أي أن يفكر الغزيون في حياة غير محاصرة، وهذا التفكير والتخيل صار نقاشًا اجتماعيًا عامًا بعد الجائحة، أي أن يكون الحصار ليس فقط في 360 كيلو متر يعيشه الناس كل يوم، بل ربما في منازلهم التي لا تتجاوز 100 متر. العيش في الجائحة كان حصارًا قاسيًا وقاتمًا أثر بشكل سلبي على الحياة اليومية للغزيين. ونتج عنها سلوكيات اجتماعية سلبية رافقت الحالة العامة للجائحة التي ولدت قلقًا وانعدام لليقين. كان العنف المبني على النوع الاجتماعي في المنازل خلال الجائحة أحد هذه السلوكيات.
ذكر تقرير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في فلسطين “أوتشا”، تحت عنوان “محاربة العنف القائم على النوع الاجتماعي خلال أزمة فيروس كورونا”، أنه بسبب القيود المفروضة على التنقل وتدابير الإغلاق منذ بداية أزمة كورونا، أن المنظمات تواصلت مع 3130 امرأة وفتاة في قطاع غزة، و3162 امرأة وفتاة في الضفة الغربية لتقديم الدعم لهن. ومنذ 22 مارس/آذار، قدمت جمعية المرأة العاملة الفلسطينية للتنمية، 1417 استشارة عن بعد و1168 جلسة إرشادية عبر الهاتف مع 597 حالة في قطاع غزة والضفة الغربية، من بينها 988 حالة لها صلة مباشرة بالعنف القائم على النوع الاجتماعي.
لعبت مؤسسات المجتمع المدني دورًا مقبولًا في قطاع غزة أثناء الجائحة بوسائل عمل تعمل بشكل متوازي مع برامج الحكومة في التعامل مع أزمة كورونا، لكن الدور تركز بشكل أكبر على الدعم النفسي ومتابعة حالات العنف المنزلي وضد النساء بشكل خاص، كما عملت برامجًا عبر التلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي للتوعية بمخاطر الفيروس وكيفية التعامل معه صحيًا ونفسيًا واجتماعيًا. إذ تركز دورها في التوعية الاجتماعية العامة.
الجائحة كرة في ملعب السياسة
راكمت جائحة كورونا أزمات فوق الأزمات السياسية الموجودة في الأراضي الفلسطينية خاصة في ظل استمرار الانقسام السياسي بين السلطات السياسية الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة. وكشفت الجائحة عن انعدام التنسيق وفي أحسن الأحوال رداءته بين السلطات الفلسطينية المختلفة، خاصة على مستوى وزارات الصحة والتنمية الاجتماعية. وأيضًا في تأهيل ومساعدة القطاع الصحي في قطاع غزة على الصمود خلال الجائحة، وعلى الرغم من المساعدات العاجلة التي قدمتها بعض الدول والمؤسسات الدولية للمستشفيات في غزة إلا أن التنسيق لإدخالها إلى غزة أخذ أبعادًا سياسية كشفت عن أزمة في التواصل بين الإدارات المختلفة بين فتح وحماس.
أخذ سوء التنسيق بين حكومتي فتح وحماس في الضفة الغربية وقطاع غزة مستويات غير مسبوقة. بدء من التعامل مع الجائحة من خلال وزارتي الصحة والتنمية الاجتماعية حتى وزارات الاقتصاد والمالية والداخلية، كما اتبعت الحكومتين سياسات مختلفة ومغايرة تمامًا في المناطق الفلسطينية مما أثر على عمل البنوك والجامعات والمدارس والشركات والقطاع الخاص والعام، رغم حالة الانقسام بين الجغرافيتين إلا أن ثمة قطاعات كاملة تعمل بشكل موحد أثر سوء التنسيق بين الحكومتين على عملها.
الحرب والجائحة ولا تزال غزة مستمرة في طريقها إلى الانهيار، في قطاع جغرافي صغير يقبع تحت حصار مستمر إلى الآن منذ ستة عشر عامًا وفيه كثافة سكانية من الأعلى في العالم ويعاني تشوه اقتصادي وتدهور غذائي وانعدام فرص العمل، تلقي الحرب بقنابلها الثقيلة على أهلها وسكانها ومبانيها وقطاعها الصحي ومرافقها الاقتصادية المنهكة أصلًا جاءت الجائحة لتضيف عبئًا كبيرًا على القطاع الصحي الذي بات حائرًا في الأزمات التي تٌلقى عليه.
عن الكاتب
.كريم أبو الروس, كاتب وباحث فلسطيني مهتم بقضايا حقوق الإنسان والمشاركة السياسية للشباب والنساء والتحولات الثقافية عند الشباب في الشرق الأوسط. حاصل على ماجستير في حقوق الإنسان والديمقراطية من جامعة القديس يوسف في بيروت.
Leave a Reply