مصر: عدم تقدير تضحيات الطواقم الطبية خلال الجائحة يزيد من هجرتهم

أحمد عزب

كانت الطواقم الطبية في الخطوط الأمامية خلال جائحة كوفيد-19، وواجهوا أخطار مختلفة وبحكم عملهم كانوا أكثر عرضة للإصابة أكثر من غيرهم. اشتملت هذه المخاطر على التعرض للعدوى من المرضى، وعبء العمل الثقيل لساعات طويلة، واستخدام معدات الحماية الشخصية لفترات زمنية ممتدة، فضلًا عن مواجهة العنف والإيذاء أحيانًا من جانب المرضى أو ذويهم دون حماية كافية.

جاءت الجائحة في ظل أوضاع غير عادلة من الأساس للعاملين في القطاع الصحي في مصر: من ضعف شديد في الأجور، ونظام صحي يحتاج لإعادة الهيكلة، إلى النقص الشديد في عدد الأطباء، في ظل تزايد هجرة العاملين الصحيين وخصوصًا الأطباء من مصر للبحث عن ظروف عمل وفرص مهنية أفضل.

يوضح الجدول التالي انخفاض أعداد الأطباء في القطاع الحكومي منذ عام 2014، ثم حدثت زيادة نسبية من 2015 الى 2017، ثم تبعها انخفاض مستمر حتى 2020:

بينما شهد القطاع الخاص زيادة نسبة الأطباء بشكل مستمر بداية من العام 2012 كما هو موضح:

وفي هذا السياق، اشتكت وزيرة الصحة في يناير 2019 وقبل تفشي الوباء مباشرة من نقص عدد الأطباء. أيضًا في نفس العام أجرت وزارة التعليم العالي ووزارة الصحة دراسة تبحث في واقع احتياجات العاملين بالقطاع الصحي. وخلصت الدراسة أن هناك نقصًا في عدد الأطباء الممارسين في مصر، ووثقت الدراسة الحكومية أن 62% من الأطباء تركوا العمل الحكومي.

وعندما جاءت الجائحة، ورغم معاناة النظام الصحي من نقص في الأطباء، تعرض  العاملون في القطاع الصحي للمضايقات الأمنية والتعسف الإداري في حالات عديدة عندما عبروا عن قلقهم أو أعلنوا عن احتياجاتهم أو انتقدوا تعامل الحكومة مع الجائحة، رغم كل الظروف الصعبة وغير العادلة التي يتحملونها منذ أكثر من عام دون استراحة أو انقطاع.

وخلال الشهور الأولى من الجائحة كان هناك تساقط كبير من العاملين بالقطاع الصحي، ورغم عدم الإفصاح الحكومي عن نسب الوفيات بين العاملين بالقطاع الصحي، فقد صرحت منظمة الصحة العالمية في أبريل 2020 بأن 13% من إصابات كورونا بمصر من العاملين بالقطاع الطبي.

وثقت نقابة الأطباء حالات وفيات الأطباء بسبب كورونا، بينما لا توجد معلومات عن عدد الوفيات والإصابات بين باقي أفراد الطواقم الطبية والصحية من تمريض وفنيين ومسعفين، وصيادلة، وإداريين، وغيرهم. ولم تعلن وزارة الصحة طوال الجائحة عن أرقام موثقة حول الإصابات والوفيات بين الطواقم الطبية، ولم تعترف ببيانات نقابة الأطباء معتبرة إياها غير دقيقة.

وبدلًا من الاعتراف بمشكلة تساقط الأطباء قلّلت وزيرة الصحة المصرية آنذاك، في أبريل 2021، من أرقام الوفيات بين الأطباء بسبب طبيعة عملهم بزعم أن من توفوا في مستشفيات العزل الصحي حسب رأيها عددهم 115 طبيبًا فقط، أما العدد الباقي من الأطباء توفوا نتيجة ما أطلقت عليه الوزيرة “عدوى مجتمعية”، وليس من عملهم في المستشفيات، بالإضافة إلى تصنيف سبب وفاة الأطباء وغيرهم من أعضاء الطواقم الطبية بكورونا في شهادات الوفاة، فالعديد منهم توفوا بالفيروس قبل أو دون أن يجروا الكشف بالمسحة، وبالتالي كانت هذه النقطة مثار جدل عند الحديث عن حساب وفيات الطواقم الطبية.

ومع تزايد حالات الوفيات بين العاملين في القطاع الصحي بسبب الوباء، ومع التعاطف المجتمعي مع تضحيات الأطقم الطبية، كانت هناك مطالبات بمعاملة ضحايا كورونا من الأطباء، وغيرهم من الطواقم الطبية، بنفس معاملة ضحايا الجيش والشرطة من الناحية المادية. لكن هذا الطلب قوبل برفض تام، مع إطلاق تصريحات رسمية بأن الدولة في ظروف صعبة ولن تقدر على تعويض الأطقم الطبية ماليًا.

قامت الدولة فقط بزيادة طفيفة للغاية لمرتبات الأطباء، لاحتواء المطالب والدعوات المتصاعدة بالتعويض المالي العادل للضحايا جراء الجائحة. على سبيل المثال، بلغ متوسط الزيادة الصافية لرواتب الأطباء البشريين من غير العاملين بالجامعات حوالي 350 جنيهًا، ومتوسط الزيادة الصافية للأطباء البشريين العاملين بالجامعات تبلغ حوالي 875 جنيهًا. وهذه الزيادات البسيطة للغاية في أجور الأطباء جزء من خلل أكبر يتعلق وجود الصحة في المرتبة الخامسة في أولويات الإنفاق الحكومي في موازنة 2020/2021، حيث أولوية الموازنة موجهة لسداد الديون و الإنفاق على العاصمة الجديدة وأجور كبار العاملين بالدولة.

وقد تم إنشاء “صندوق التعويض عن مخاطر المهن الطبية” بموجب قانون 184 لسنة 2020، بحيث  يصرف تعويض للمصاب بعجز كلي أو جزئي أو لأسرة المتوفى نتيجة مزاولة المهنة، وهو تعويض يصٌرف مرة واحدة وليس معاشًا شهريًا، وذلك بخلاف أي مستحقات أخرى من التأمينات والمعاشات. لكن أغلب موارد هذا الصندوق تأتي من مساهمات أعضاء المهن الطبية أنفسهم، وحتى الآن لم يتم وضع آليات واضحة لتفعيل هذا القانون، ولا كيف سيتقدم أهالي الضحايا له للحصول على مستحقاتهم، رغم مرور ما يقرب من عامين على صدوره، مما يرجح أن إنشاء هذا القانون كان لاحتواء المطالب المتصاعدة بتعويض ضحايا الأطقم الطبية، دون وجود إرادة سياسية حقيقة لتفعيله.

إن عدم تفعيل مثل هذا القانون وعدم الحديث عن إعادة هيكلة أجور القطاع الطبي يوضح أولويات النظام المصري في الإنفاق، والتي لم يكن منها الرعاية الطبية والبحث العلمي.

عوامل هجرة الأطباء عديدة على رأسها عوامل مالية متعلقة بضعف شديد في الرواتب وتفتت النظام الصحي، وعوامل مهنية تتعلق بجودة التدريب الطبي وظروف العمل، وعوامل اجتماعية وسياسية عامة تتعلق بالمناخ السياسي. فمن يهاجر يبحث عن رواتب جيدة وظروف حياة أفضل، وللبحث عن مستقبل واضح المعالم وضمان معاش ورعاية صحية بعد التقاعد، وتعليم جيد للأبناء، ولأسباب مهنية أيضًا لها علاقة بظروف العمل الأكثر جودة سواء في دول الخليج أو في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وغيرها من دول المهجر التي يذهب إليها الأطباء المصريون. ويزيد من معدلات الهجرة أيضًا الاحتياج الشديد من دول العالم الأول للعمالة الطبية الماهرة، وبالتالي تكون فرص هجرة الطواقم الطبية أعلى لأنها مهن مطلوبة.

لم تقدم الدولة أي رسائل إيجابية سواء من ناحية التعويض المالي أو المعنوي للأطقم الطبية كإشارة أن الدولة تريد الاحتفاظ بهم، بالعكس كان هناك غياب للمرتبات التي تكفل حياة كريمة من ناحية، ومن ناحية أخرى تضييق أمني وإداري عندما يعبرون عن آرائهم.

يعد عدم القدرة على الإبقاء على الأطباء المصريين داخل البلد قضية أمن قومي ويستلزم التحقيق في أسباب هذه الأزمة إجراء تحليل شامل للأوضاع في بيئة عمل الأطقم الطبية، خصوصًا مع شروع الدولة في تطبيق المرحلة الأولى من التأمين الصحي الشامل الجديد. إن خبرة سنوات الجائحة لا تشير حتى الآن أن هناك إرادة حقيقية في حل أو التفاوض لحل أزمة ضعف أجور الأطقم الطبية وبالتالي هجرتهم بالآلاف للخارج، ما سيجعل النظام الصحي وحتى المشروع الطموح بتطبيق تغطية صحية شاملة خلال العشر سنوات القادمة في تهديد حقيقي.


عن الكاتب

.أحمد عزب، باحث في ملف الحق في الصحة بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية

Leave a Reply