الدّكتورة نجاة صليبا: بالفضول نحفّز النمو

اختارت الدّكتورة نجاة صليبا أن تكون باحثة في علم الكيمياء، واختار قلبها أن تكون معلّمة. وبالنسبة إليها، فإنّ اتّخاذ قرارات مصيرية خلال حربٍ على مستوى الوطن ليس بتلك البساطة، لذا، حرصت على الوثوق ببداهتها والإيمان بنفسها. وبدلًا من أن تكتفي بعيش مراحل الحياة الرئيسة، توصّلت الدّكتورة صليبا إلى قناعةٍ مفادها أنّ كلّ ما في الحياة هو في حالة تقدم مستمر، مهما بلغت حدة الانتكاسات، ومهما كثر عدد أولئك الذين يتعمدون تهميش وجودها كباحثة في علم الكيمياء في المواقع الميدانية.

وعندما كانت طالبة في المدرسة، كان ميولها يقودها دومًا نحو ممارسة مهنةٍ ترتبط بعلم الأحياء. ثم تخرجت من المدرسة الثانوية خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وقررت حينها الالتحاق بالجامعة اللبنانية. وكانت الدّكتورة صليبا من المتفوقين في كافة مواد العلوم، إلّا أنّها كانت تجد المتعة القصوى في علم الأحياء. وعندما اصطحبها والدها للتّعرّف إلى السّكن الجامعي الّذي ستقيم فيه أثناء الدراسة، تبين أنّه بعيد عن قسم علوم الأحياء، ما أثار قلق الوالد على ابنته. وبما أنّ الحرب اتسمت بالطائفية وامتدت إلى 15 سنة، كان من دواعي القلق بالنسبة إلى والدها أن تقوم ابنته بالمشي أو التنقل من وإلى السكن الجامعي الذي كان عليها أن تقيم فيه لمدة ثلاث سنوات. عندها، توصلت إلى حلٍّ من شأنه أن يريح بال والدها ولا يزعجها في الآن نفسه، ققررت دراسة علم الكيمياء باعتبار أنّ هذا القسم لعلوم الكيمياء قريب من السكن الجامعي، وباعتبار أنها مولعة بجميع العلوم بشكلٍ عام. ولم تخش الدّكتورة صليبا تغيير مخططاتها حين عاكستها الظروف، بل أظهرت قدرتها على التكيف مع اللا متوقع.

في الواقع، لم ينعم العالم العربيّ بالهدوء ولم يسترح قط من الصراعات والحروب وانعدام الأمن. وحين كانت الدّكتورة صليبا طالبة جامعية، أدركت أن لا بد لها من المثابرة لنيل شهادتها مهما كانت الظروف سيئة. وتلجأ  الدّكتورة صليبا للمقارنة بين الوضع آنذاك والوضع الحالي في لبنان، فبالرغم من انعدام الأمن الذي يواجهه الطلاب اليوم بسبب الأزمة الاقتصادية في لبنان، فهي تعيد سرد قصص دراستها في الملجأ وفي قبو منزلها، خوفًا من الخروج والمخاطرة بحياتها. وقد حظيت الدّكتورة صليبا بوجود والديها إلى جانبها وبدعمهما أثناء متابعتها لدراستها. وبالنسبة إليها، هذه الحالة من اللا استقرار تدفع المرء إلى التخلي عن أحلامه وإلى فقدان الأمل، وهذان أمران لم يكن من الوارد أن تقوم بهما على الإطلاق. وأصبحت المثابرة جزءًا لا يتجزأ من شخصية نجاة، فمضت نحو تحصيل درجة الدكتوراة في الكيمياء التحليلة، وتلتها درجة أخرى ما بعد الدكتوراه.

وتعتقد الدّكتورة نجاة، وهي اليوم أستاذة في الجامعة الأمريكية في بيروت، أن التدريس الفعال يتجلى في تعليم الطلاب أسلوب العيش، وطريقة العثور على إجاباتٍ لتساؤلاتهم. وبالرغم من أن الطلاب يحتاجون إلى تعلم المواد المقررة لهم، تعتبر أن لا بدّ لهم من تعلم ما يتجاوز حدود الكتب، وأن يستفيدوا من تجارب من سبقهم. وتضيف الدّكتورة صليبا أنّ المعلومات اليوم هي في متناول أيدي الطلاب، وانطلاقًا من ذلك، يجب أن يكونوا قادرين على الاطلاع عليها بشكلٍ أفضل. من هذا المنطلق، تشعر بوجود ارتباط بينها وبين طلابها، وتتلقى منهم ردود فعلٍ إيجابية، فهي لا تحضر الصف كي تقرأ لهم ما في الكتب أو ما في شرائح العرض التقديمي. وباعتبار أن الدّكتورة صليبا باحثة في علم الكيمياء، فهي تعيش حياتها انطلاقًا من مفهوم التجربة، حيث أن المرء يجب أن يختبر الحياة من خلال تجاربه الواقعية كي يجعل مسيرته أكثر أهمية.

وقد لاحظت الدّكتورة صليبا الاتجاهات الناشئة من موقعها كأستاذة جامعية، فأشارت إلى تزايد في عدد الأساتذة من النساء على مستوى التعليم العالي. وفي المقابل، تقر بصعوبة أن تكون الأم أستاذة تعمل بدوامٍ كامل، وأن يتعين عليها التعامل مع الظروف العائلية الطارئة في الوقت نفسه. وتقول الدّكتورة صليبا أن أماكن العمل عمومًا يجب أن تكون أكثر ملاءمةً للنساء مما يسمح لهنّ بتقديم أداءٍ أفضل وإظهار كفاءةٍ أعلى في العمل. وفي هذا الصدد، تقدم الدّكتورة صليبا مثلًا حول الأم التي ينبغي عليها الاعتناء بطفلها المريض وتحتاج إلى إجازة من عملها لتقوم بهذا الأمر. إضافة إلى ذلك، يجب أن تكون إجازة الأمومة أطول مما هي عليه الآن، كي يتسنى للأم التخطيط بشكلٍ أفضل لحياتها الشّخصيّة ولحياتها المهنية دون أن تضطر إلى وضع إحداهما على المحك.

ولم تواجه الدّكتورة صليبا أيًّا من أشكال التمييز ضدها بصفتها أستاذة في جامعة مرموقة، وهذا لأن الجامعة قد فرضت قوانين تمنع حدوث مثل هذه الأمور. ومع ذلك، تعيد الدّكتورة صليبا سرد بعض القصص التي كانت تحدث معها عند ذهابها إلى ميدان العمل لأخذ بعض القياسات المتعلقة بالبحث، حيث كان يقوم العمال بمخاطبة زميلها بدلًا من مخاطبتها. والشيء نفسه حدث حين دعيت وزميلها إلى اجتماع مع مجلس إدارة البلدية، حيث تمّ توجيه جميع الأسئلة إلى زميلها لا إليها. وهي تذكر جيدًا كيف قام زميلها بعد مغادرتها بالاعتذار عن تصرفات الحاضرين في الاجتماع وجميع الرجال عمومًا.

وتذكر الدّكتورة صليبا أنّ ما يحفّزها هو الفضول، فهي تنظر إلى عملها على اعتبار أنه عملية تخوضها، لا مجموعة من المراحل الرئيسة التي يجب عليها إنجازها. وهي تنصح الجيل القادم بأن يكون لديه على الدوام فضولٌ لمعرفة كل شيء، وحافزٌ للبحث عن كل المواضيع التي يجهلها. ونظرًا إلى أنّ أدوات البحث لا تتوفر لدى الجميع بسهولة، وباعتبار أن استخدامها غير متاح للجميع، تسلط الدّكتورة صليبا الضوء على أهمية اعتماد البحث المتواصل وعدم التسليم بصحّة أي معلومات يتم عرضها على أنها وقائع ثابتة. كما تؤمن أنه من خلال امتلاك الفضول والقدرة على استرجاع المعلومات الصحيحة، يمكن للمرء أن تُشرّع له أبوابٌ لم يُخيل إليه يومًا أنها قد تتاح له. وهي تنصح الجيل القادم بطرح الأسئلة، وتتوجّه إلى طلابها بالقول “إنّ مطلق سؤالٍ لا يعقل أن يكون غبيًّا”، بل إنّ جميع الأسئلة تعتبر قيّمة طالما أنها تُسهم في إشباع شيءٍ من الفضول. إن هذا الفضول الذي امتلكته هو الذي دفعها إلى استكشاف مجالاتٍ مختلفة لم تكن تتوقع من نفسها الخوض فيها.

أما النصيحة التي تقدمها الدّكتورة صليبا للمدارس فهي فريدة من نوعها. ومع إدراك الصعوبة الكامنة في تغيير منهاج بأكمله، لا سيما في لبنان، تقترح أن تقوم المدارس بإيلاء اهتمامٍ أكبر للرقص والموسيقى. وهي تؤمن أن الفتيات يكتشفن ما لديهنّ من إبداع من خلال مختلف أشكال الفنون، ويمكن لهنّ من خلالها التعرف بشكلٍ أفضل إلى ما يثير إعجابهنّ أو يحظى باهتمامهنّ. وتشير إلى أنّ المنهاج الدراسي، بشكله الحالي، يتضمن العديد من المواد التي تستلزم الكثير من الحفظ والتحليل، إنما القليل منها فقط يثير انفعالات الطلاب ويعزز من تقديرهم لذاتهم.

هذه القصة من تأليف تمارا سليمان

Leave a Reply