الكورونا وإنتاج الثقافة

حسان عباس

لا مناص، لدى الكتابة عن موضوع مرتبط بالثقافة، من تحديد الزاوية التي يتم من خلالها التعامل مع هذا المفهوم متعدد الدلالات تحديداً للمقصود ومنعاً للالتباس. إذ من المعروف للقاصي والداني أن مفهوم “ثقافة” يحيل إلى دلالات لا حصر لها يؤدي الخلط بينها إلى إشكالات منهجية مُربِكة. وعليه تحدد هذه المقالة دلالة الثقافة بمعناها الشائع وهو معرفة الإنتاجات الفكرية في تنوّعها: الأدب، السينما، الموسيقى، إلخ. وتنظر إلى هذه الإنتاجات في زمن جائحة الكورونا، وكيف تأثرت بها.

يبدو للوهلة الأولى أن الإنتاج الثقافي كان من المجالات القليلة التي استفادت من الحجر وظروفه. فالانعزال في البيت يستولد الملل وضيق الصدر، وليس من تزجية للوقت، بما يساعد على عبوره دون الخضوع لثقله، أحسن من التمتع بالمنتجات الثقافية من سينما وموسيقى وأدب وخلافه. وهو أمر صار في غاية اليسر مع وسائل التواصل الحديثة. فحضور أي فعالية ثقافية صار في متناول الناس وهم في أرائكهم فلا يحتاجون إلى مشقّة الخروج وحجز الدور والانتظار والتكلف بثمن بطاقات الدخول، إلخ.

 الواقع أن مفهوم الفائدة في هذه الصورة خدّاع قليلا، ولا بد لنا قبل الإعلان أن المنتجات الثقافية قد عرفت انتشارا كبيراً في فترة الحجر من التأكد من أن التمتع بهذه المنتجات صار أوسع من ذي قبل حقّاً، وهنا يجب إجراء إحصاءات دقيقة والمقارنة بين عدد من كانوا يرتادون صالات السينما، مثلاً، قبل الحجر وعدد من يشاهدون الأفلام خلاله، والمقارنة بين عدد القرّاء في أوقات الحياة العادية وعددهم في لحظات الحجر الاستثنائية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى جميع المنتجات الثقافية. وأعتقد أن النتيجة الوحيدة التي سنحصل عليها من هكذا مقارنات ستقول إن استهلاك المنتجات الثقافية “في البيت” أثناء الحجر يفوق بقدر كبير ما كان عليه قبله، أما استهلاك ذات المنتجات “بشكل عام” فقد تراجع بنسب تفوق أي تقدير.

إذا نظرنا، على سبيل المثال، إلى مسألة زيارة المتاحف عبر العالم سنجد أن الكثير من المتاحف قد وضعت روابط على شبكة الأنترنت تسمح لمن يرغب، ويمتلك القدرة على الدخول إلى الشبكة، بزيارة المتحف مجاناً وافتراضيا دون أن يبتعد عن شاشة حاسوبه. لكن هل يعني هذا أن عدد زائري المتاحف قد زاد عبر العالم؟ أبدا. تشير دراسة مشتركة لمنظمة اليونيسكو والمجلس العالمي للمتاحف (ICOM) إلى أن 90% من المتاحف في الدول المنضوية في المنظمة، أي ما مجموعه 95000 متحفا قد أغلقت أبوابها خلال فترة الحجر، ما يعطينا فكرة عن ضعف عدد المهتمين الذين قُيّض لهم زيارة المتاحف والتمتع بمشاهدة مقتنياتها. أما عن عرض تلك المقتنيات عن طريق الشبكة فتنبّه الدراسة إلى ضرورة عدم المبالغة في اعتبار هذه الآلية معوّضةً عن زيارة المتاحف لأسباب متعلّقة بالتمايز الاقتصادي والثقافي البنيوي الذي يعاني منه العالم. فمتاحف أفريقيا والدول النامية ليست لديها القدرة الاقتصادية لرفع مقتنياتها على الشبكة وتأمين وصولها إلى من يرغب، ومن كل متاحف هذه الدول 5% فقط كانت قادرة على تحقيق هذه الآلية. أما من هم المحظوظون القادرون على التعامل مع معروضات الشبكة فالواقع الصادم هو أن 50% من سكان الأرض لا يزالون محرومين من القدرة على استعمال التقنيات الرقمية. ما يعطينا فكرة واضحة عن مدى العوز المحقق في زيارة المتاحف ومدى الخطر الذي يتهدد المتاحف بسبب انقطاع المستهلكين عن زيارتها، رغم الجهود المبذولة لتشجيع الزيارات الافتراضية المنزلية.

وإذا ما فتحنا زاوية النظر قليلا نجد أن قطاع السياحة، وتشكل السياحة الثقافية جزءا كبيرا منه، هو من أكثر القطاعات الاقتصادية تضرراً، مع انحسار عدد السائحين في العالم إلى درجة غير مسبوقة. يقدّر تقرير للأمم المتحدة صدر في مطلع شهر تموز الحالي أن الخسائر التي يتوقع أن يسجلها قطاع السياحة العالمي تتراوح بين 1200 و3300 مليار دولار. أما في العالم العربي فقد قدرت منظمة السياحة العربية خسائر القطاع بسبب الكوفيد-19 بـ 130 مليار دولار يصيب القسم الأكبر منها الدول الأكثر جذبا للسياح مثل مصر ولبنان وتونس.

وبشكل عام لم يبق قطاع من قطاعات الإنتاج الثقافي بمنأى عن الخسارة والعوز. بدءا من المبدعين الأفراد، مرورا بالمؤسسات الإبداعية الصغيرة والمتوسطة وصولا إلى الصناعات الثقافية الضخمة كصناعة السينما. في بريطانيا، على سبيل المثال، فقد مسرح فرقة شكسبير الملكية Royal Shakespeare Company 75% من أرباحه المعتادة ما اضطره إلى وضع 90% من موظفيه في عطلة إدارية. وفي فرنسا أعلنت إدارة سيرك الشمس Le Cirque du Soleil عن تسريح 95% من العاملين. أما ما تعانيه صالات العرض الفنية الخاصة، وهي مؤسسات ثقافية صغيرة، فتبرزه دراسة مشتركة لجامعة ماسترخت الهولندية و”مجلة الفن The Art Newspaper” إذ تتوقع أن ثلث صالات العرض الفني الخاصة عبر العالم لن تستطيع العودة إلى الحياة بعد مرور الأزمة. كما تتخوف اليونيسكو من أن 13% من المتاحف التي أغلقت بسبب الحجر قد لا تستطيع العودة إلى العمل مرة ثانية بسبب الخسارة التي سجلتها في إيرادات شبابيك التذاكر.

على الرغم من فداحة الأرقام المذكورة، يبقى المُنتِجُ الثقافي، المبدع والفنان، الخاسرَ الأكبر في معركة الكوفيد-19، وبخاصة بعض الفئات المحددة من الفنانين. يمكن المحاججة أن أولئك المبدعين الباحثين أصلا عن العزلة والوحدة لوضع أعمالهم، مثل الكتّاب والرسامين والموسيقيين والنحّاتين، قد استفادوا من الوباء لأن العزلة مطلبهم وها قد تحققت لهم بشروط الحجر. غير أن هذه الحجة لا تأخذ بعين الاعتبار العامل النفساني في عملية الخلق الفني والذي يتلخص بكلمة: الحرية. صحيح أن المبدعين يطلبون العزلة ويستسيغونها عندما تكون باختيارهم غير أنها تتحول عندهم إلى كابوس وإلى سجن حقيقي، عندما تُفرّض عليهم وهذا على الأغلب ما كان عليه انطباع هؤلاء أثناء الحجر الأخير.

وبعيدا عن عملية الإبداع الفرداني ثمة الكثير من الأنماط الثقافية التي لا تعيش مع الحجر وفي مقدمها كل أشكال الثقافة الجمعية، سواء أكانت دينية أم دنيوية، مثل احتفالات عيد الفصح، وكرنفالات أوروبا وأميركا اللاتينية، واحتفالات النيروز، واحتفالات يوم بودا أو الفيساك Vesak لدى البوذيين، ويمكن أن نضيف إليها المهرجانات الموسيقية والسينمائية عبر العالم. ومن هذه الأنماط تلك التي تتطلب عملا جماعيا وتلامسا بين المشاركين مثل التصوير السينمائي والمسرح وعروض الشارع وجميع فنون الأداء. ولنا أن نتصور حجم المصيبة التي تلقاها أهل المسرح مثلا حيث أن التلاقي بين الممثلين صار غير مرغوب فيه، ما يؤثر تأثيرا مباشرا على التمارين، وحيث أن أغلب المسارح أغلقت مؤقتا وأنها حين ستعود لفتح أبوابها، إن استطاعت، لن يكون بمقدورها استقبال أكثر من 25 إلى 30 بالمائة من عدد المقاعد محافظةً على التباعد الاجتماعي، فإن أراد المخرج أن يقدم عرضه لنفس الجمهور الذي ينتظره اضطر إلى تمديد مدة العرض ما يعني تكاليف غير معوّضة إضافية، طبعا كل هذا إذا استطاع أن يجد المموّل الذي سيرضى بالمجازفة بماله في عملية غير مضمونة النتائج.

يبقى التعويل على الحكومات والمؤسسات الرسمية لدعم الإنتاج الثقافي بعد انحسار الوباء لكن من الأفضل عدم التعلل بالآمال هنا لأن عملية إنقاذ القطاع الثقافي، وإن كان من أكثر القطاعات تضرراً، لا تندرج على سلّم أولويات الحكومات. ما يعني أن الكثيرين من الفاعلين الثقافيين سيضطرون للتخلي عن أعمالهم في المستقبل والبحث عن أعمال أخرى تمكّنهم من كسب عيشهم.

تبقى ضمن هذه اللوحة السوداء لحال الثقافة أثناء جائحة الكوفيد-19 وبعد انحسارها بارقة أمل ليست بالبسيطة وهي أن مراجعة التاريخ تُظهر أن الأزمات الكبرى شكّلت دائما قوة دافعة وملهمة لإنتاج الثقافة ولابتكار أشكال ثقافية جديدة ولعل أزمة الكوفيد-19 لن تشذ عن هذه القاعدة فتُطلق في العالم حركة ثقافية ستكون خلّاقةً بقدر ما كانت أزمتها قاتلة.


عن المؤلف

الدكتور حسن عباس هو مدير برنامج أبحاث “الثقافة كمقاومة” في معهد الأصفري للمجتمع المدني والمواطنة.

Leave a Reply