البيانات الضخمة … الوحش آكل الخصوصية

أحمد عبدالحميد حسين

يُطلق على المعلومات الناتجة عن الاستخدام الواسع للتطبيقات والمواقع المختلفة على شبكة الإنترنت مثل: جوجول وفيسبوك وتويتر، والبيانات القادمة من عمليات الشراء على المتاجر الإليكترونية، والتفاعلات مع محتويات مشاهدات الفيديو على اليوتيوب، ورسائل الواتس وغيرها مصطلح “البيانات الضخمة“، وهي البيانات التي لا تستطيع الأجهزة التقليدية التعامل معها، وتصنيفها وتحليلها، بل تحتاج لإدارتها أجهزة أكثر تعقيدًا.

لنضرب مثالاً بسيطًا عن حجم “البيانات الضخمة” التي يتم إدارتها وتحليلها والوصول لنتائج يتم الاستفادة بها لاحقًا في مجالات مختلفة، عند استعراض قاعدة بيانات متجر Walmart الشهير[1]، نجد أنها تُعالج نحو مليون عملية تجارية كل ساعة، وتحوي قواعد بيانات هذه الشركة 2.5 بيتابايت، وهو ما يساوي 167 ضعف جميع البيانات الموجودة في كل كتب مكتبة الكونجرس.[2]  فما البال بقواعد البيانات الموجودة لدى مؤسسات أكبر بكثير جدا مثل: أمازون وجوجول وفيسبوك،  التي تهمين كل واحدة فيها على قاعدة مهولة تحوي خرائط غير متناهية من بيانات المستخدمين.

زادت في الآونة الأخيرة الاهتمام بالبيانات الضخمة وعلم البيانات وهما تخصصان علميَّان يستخدمان قواعد الرياضيات والإحصاء والبرمجة، ويتداخل كلاهما مع تخصص هام للغاية وهو “الذكاء الاصطناعي، والذي هو عبارة عن منظومة تحاكي الذكاء البشري، وتستطيع تفسير البيانات الخارجية بشكل فائق عبر التعلم من هذه البيانات وتحليلها، وتستخدم تلك المعرفة لتحقيق أهداف ومهام محددة من خلال تكيف مرن ومتطور طوال الوقت.

هناك أمثلة لا حصر لها على استخدامات “البيانات الضخمة” التي تزداد أهميتها يوما بعد يوم للدرجة التي أطلق عليها “نفط المستقبل” نتيجة لمساهمتها في إعطاء “تحليلات تنبؤية” تساهم في تحسين بيئة عمليات مجالات مختلفة مثل: الصحة والتعليم والدفاع والاقتصاد.

على سبيل المثال، الشركات الكبرى في قطاع التسويق والتجارة الإليكترونية- مثل شركة أمازون و”علي بابا” الصينية -استطاعت استخدام البيانات الضخمة في التنبؤ بحجم إنفاق المستهلكين، وتبني حملات إعلانية موجهة عبر الاعتماد على بيانات العملاء تشمل البيانات الديمغرافية، وسلوكهم البيعي، وتفضيلاتهم من خلال عمليات شراء سابقة، وهي التحليلات والتنبؤات التي ساعدت على زيادة أرباح هذه الشركات بشكل كبير.

البيانات في مواجهة كوفيد-19

على مستوى القطاع الصحي، هناك عشرات التقارير التي تحدثت عن كيف ساعدت “البيانات الضخمة” في التنبوء بمدى انتشار الفيروس سواء على المستوى السكاني، أو الجغرافي. حيث تسمح البيانات الضخمة بإعطاء تقييمات ديناميكية ودقيقة للمخاطر، للحد الذي يمكن معه معرفة ما إذا كان الخطر الفيروسي مرتفع في مكان بعينه، واحتمالية تحوله لبؤرة انتشار من عدمه، وذلك بتحليل البيانات الخاصة بسلوك مرضى ومصابين محتملين متواجدين في ذات المكان.[3]

كوريا الجنوبية كانت نموذجًا جيدًا في احتواء الفيروس من خلال استخدام البيانات الضخمة والذكاء الصناعي، حيث استطاعت في خلال 20 يوم فقط القيام بتسطيح المنحنى الذي بدأ لديها بعد إصابة أول سيدة بعد رجوعها من الصين، من خلال اتباع مجموعة من التدابير اعتمدت على تتبع الحالات المؤكد إصابتهم عبر وسائل مختلفة من بينها: بيانات أجهزة الـ GPS، ومعاملات بطاقات الإئتمان، وبمجرد جمع هذه البيانات يتم مشاركة صورة شاملة لحركة المريض المؤكد بشكل علني، وتوفير معلومات حول التاريخ والجدول الزمني لحركة المريض، والأماكن التي قام بزيارتها مثل المطاعم والفنادق، ووسائل النقل التي استخدمها، والمقعد المحدد الذي استخدمه في قاعة السينما، بعدها تم إرسال رسائل من خلال تطبيق يتم تحميله عبر الهاتف للأشخاص المعرضين لخطر أكبر، والمناطق المفترض التوجه إليها، ومتابعته طبيا عبر الإنترنت أو الهاتف.[4]

كما ساعدت البيانات الضخمة والذكاء الصناعي أيضا الجهات الصحية في كوريا الجنوبية في تحديد مناطق بعينها تحتاج لإجراء اختبارات الفيروس، دونا عن مناطق أخرى أقل أولويّة، ومن ثم قامت الحكومة الكورية الجنوبية باستخدام الحد الأدنى من الاختبارات الفيروس القليلة التي تمتلكها، لذلك لم تواجه ذات الأزمة التي واجهتها دول أخرى بسبب نقص الاختبارات.[5]

ظهور مستر هايد على المسرح

لكن ليس بالضرورة أن يتم استخدام البيانات الضخمة في تحسين حياة البشر بالضرورة، فالبيانات الضخمة حقيقة لها وجهان، وجه طيب (أو ربما يبدو كذلك)، ووجه آخر شديد الشر، فهي حينما تساعد الفرد لتقديم سلعة أرخص أو أكثر جودة، تسلبه في المقابل خصوصيته، وإنسانيته كذلك في كثير من الأحيان.

في كتاب “الأزمنة ما بعد العادية” يتحدث عالم المستقبليات البريطاني ضياء الدين ساردار عن أن شرطة لندن بدأت مؤخرًا تستخدم “التحليل التنبؤئ” المعتمد على “البيانات الضخمة” في نسق يشبه إلى حد كبير التكتيكات الاستباقية في الفيلم الشهير “تقرير الأقلية” (Minority Report).

 في الفيلم يُوقِف قسم “استباق الجرائم” المعتدين قبل قيامهم بفعل الجريمة، وهو الأمر ذاته الذي يحدث تقريبًا في لندن العاصمة، حيث تقوم شرطتها بتوزيع الضباط على مناطق “خرائط الجرائم المستقبلية”، والتي يتم إنتاجها يوميًّا باستخدام الخوارزميات الحاسوبية التي تُدمج أنماط الجريمة المحلية، والرياضيات كي تحدد أين ستقع الجرائم التالية، ولكل خريطة منطقة تنبؤية” بمساحة يُقدَّر قطرها بـ 300 متر، وعادة ما تغطي عددًا من الشوارع المحددة.[6]

الأمر نفسه تتبناه شركة بريد بول (PredPol) وهي شركة أمريكية تأسست في كاليفورنيا في العام 2012 على نفس فكرة فيلم ( تقرير الأقلية) حيث استطاعت بالاعتماد على “البيانات الضخمة” في تطوير خوارزميات “تنبؤية” تستطيع بها تحليل إحصائيات للجرائم الحالية والمستقبلية، وهي تعمل اليوم مع قسم شرطة لوس أنجلوس” لوضع مستهدف بمناطق بعينها يمكن إمدادها بعدد أكبر من دوريات الشرطة، لأنها وفقا لتقاريرهم المستندة على تحليل البيانات فمعدل الجرائم المحتملة فيها أكبر من مناطق أخرى.[7]

نفس الإشكالية التي يطرحها الفيلم يمكن أن نطرحها هنا: هل الأولوية لتحسين حياة البشر، وتحقيق العدالة، وصناعة مجتمع يخلوا من الأمراض والجرائم، حتى ولو أتى ذلك على حساب خصوصيتهم الفردية؟ ومن له حق إدارة هذه المنظومة؟ وهل هي عادلة بشكل كافي؟

كيف تُعرف أسرارك من قائمة فواتيرك

جريدة “النيويورك تايمز” الأمريكية نشرت مقالا عنوانه (كيف تعرف الشركات أسرارك) تحدثت فيه عن وجه آخر قاتم للـ Big Data وضربت أمثلة عديدة للأسرار التي قد تتسرب منك بدون أن تعرف للشركات التي تتابع حركة استهلاكك، للدرجة التي تجعل تجار سلع التجزئة يستطيعون من خلال البيانات التي يستخلصونها من خلال حركة المستهلكين في متاجرهم معرفة إذا ما كانت المرأة المشترية حاملاً في طفل فقط من خلال قائمة الأطعمة التي تشتريها، ومن خلال ميلها النفسي لشراء مستحضرات غير نفَّاذة الرائحة، يُقال أن الخوارزميات التي يستخدمها تجار التجزئة تجعلهم حتى يعرفون بدقة متى يحين موعدة ولاد الطفل قبل أن تعرف هي أو طبيبها بذلك![8]

حينما تقوم بملء استبيان تسويقي إليكتروني بسيط، أو تعطي رقم هاتفك وبريدك الإليكتروني لشركة تسويق وبيع إليكتروني لتحصل بموجبه على خصومات تسويقية لمنتجات تشتريها منهم فيما بعد يمكن، أو حينما تقوم بالدفع ببطاقة ائتمانية، حينها بسهولة يمكن للشركات أن تعرف جزءا من شخصيتك، وسماتك وميولك النفسية، عمرك، متزوج أم أعزب، أي جزء من المدينة تعيش فيه، راتبك التقديري، نوع السيارة التي تمتلكها، أي قطاع وظيفي تنتمي إليه، قطاع حكومي أم خاص، ما هي خياراتك، وأطعمتك المفضلة، واحتمال إصابتك بمرض ما، أو اتباعك لحمية عبر شراء عصائر طبيعية، أو بدائل تحلية بديلة عن السكر. لا تستغرب إذا علمت أن هذه البيانات تتحول لأصول ربحية لهذه المؤسسات فيما بعد.

الألعاب التي يلعبها الناشطون على الفيسبوك التي تسألهم عن ميولهم السياسية تحدد بسهولة الاتجاهات السياسية لقطاع عريض من ناشطي الفيسبوك، ومعرفة اتجاهات مرتادي مواقع التواصل الاجتماعي عبر “التريندات” التي تظهر كل فترة على “تويتر” أو “فيسبوك” كالتجبيه والدعم الذي يحدث نحو مؤسسة خيرية ما تقوم بتقديم الدعم لمرضى كورونا، أو القيام بحملة نقد تستهدف داعيّة أو إعلامي، أو التضامن مع سياسي ما محلي أو أجنبي مثل السياسي الأمريكي ( بيرني ساندرز). قد تكون كل هذه المعلومات بالنسبة لشخص ما ليست لها قيمة، يسأل نفسه، وهو يهز كتفيه: “وماذا يهمهم من بياناتي، ما أنا إلا شخص واحد!.” لكن في الحقيقة كل البيانات الواسعة والضخمة من خلالها يمكن جنبي أرباح مهولة للغاية سواء اقتصادية، أو يمكن من خلالها دعم حملات وتحقيق مكاسب سياسية قد تضع أغلب العالم في صدمة، وهذا ما حدث بالفعل في الانتخابات الرئاسية الأخيرة بين هيلاري كلينتون ودونالد ترامب، والتي انتهت بفوز الأخير، أو حتى قبلها، حينما كان الديمقراطيون أكثر قدرة على النفاذ للبيانات والتحكم فيها، واستغلالها في الفوز بالانتخابات، حينما أوصلوا أول رئيس من أصول أفريقية إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية.

لقد بنيت فكرة استخدام الحملات الانتخابية للبيانات الضخمة بنفس الطريقة التي تستخدمها الشركات التجارية مع المستهلكين، عبر تجميع أكبر قدر ممكن من البيانات عن الناخبين، أعمارهم، مناطقهم الجغرافية، تفضيلاتهم الشخصية، أهم القضايا التي يهتمون بها، أهم الأخبار التي يتابعونها ثم بعدها  يُترك الأمر للمرشح وحملته كي يقوموا ببناء حملة يمكنها أن تتفاعل مع الناخبين.

حملة أوباما التي قادته لقنص الفوز بمقعد الرئاسة للمرة الثانية في 2012 كان جزء مهم من فريقها غير الاعتيادي مُكون من مبرمجين ومهندسين قدموا استراتيجيات مختلفة لكيفية استخدام شبكة الويب ووسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الحديثة كي يتم تعبئة ناخبين جدد للمشاركة في العملية الانتخابية، لقد استخدموا منصات تفاعلية تسمح برؤية أكثر المؤيدين نشاطا، وضمهم لقاعدة الحملة التطوعية، كما قاموا بتفعيل بروتوكولات على موقع الفيسبوك تسمح لهم بالوصول لداعمين أرادت الحملة تسجيل أسماؤهم، أو تعبئتهم، أو إقناع المترددين منهم.[9]

“البيانات الضخمة” كان لها دور أيضًا في وصول “دونالد ترامب” لاحقًا إلى الفوز على هيلاري كلينتون”، لكن كما نشر في تقارير عدة، كان فوزه ذاك محفوف باختراقات غير قانونية عن طريق استخدام غير قانوني لبيانات الناخبين الأمريكيين.

ففي شهر مارس من العام 2018 بثَّت القناة الرابعة البريطانية تقريرًا هاما كشفت فيه أن شركة “كامبريدج أنالتيكا” Cambridge Analytica  البريطانية كان لها دور كبير في فوز دونالد ترامب عبر تسريب مئات الملايين من المعلومات عن الناخبين لحملة ترامب، وقد حصلت عليها الشركة المتخصصة في تحليل البيانات بطرق غير معروفة من موقع “فيسبوك”.

القناة سرَّبت في تقريرها المرئيّ مقاطع لصحفييِّن يعملان لديها قاما بالتخفي في صورة عميلين محتملين للشركة، قاما بمقابلة أليكسندر نيكس، المدير التنفيذي للشركة للتفاوض معه على حملة انتخابية، وحينها أخبرهما متفاخرًا بأن شركته كانت سببًا في وصول ترامب للرئاسة، وأن الشركة استطاعت دعم الحملة عن طريق استخدام معلومات لحسابات ـ230 مليون أميركي على موقع “فيسبوك”، واقناعهم بإعلانات ترويجية بأن “ترامب هو الخيار الأفضل” لهم.[10]

يُذكر أن شركة ” كامبريدج أنالتيكا” ذاتها ساهمت عبر نفس الأسلوب في دعم الترويج لحملة قادت للتصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

موظف آخر كان يعمل لدى “كامبردج أناليتيكا”، هو كريستوفر ويلي، والذي تم استدعاؤه للتحقيق لاحقا، تحدث عن أن الشركة استخدمت البيانات التي حصلت عليها بدون تفويض في أوائل عام 2014 لعمل برنامج كمبيوتر للتنبؤ والتأثير على خيارات الناخبين في مراكز الاقتراع، والبرنامج نفسه يستطيع أن يقدم معلومات عن الناخبين لاستهدافهم بإعلانات سياسية شخصية، وقال ويلي لصحيفة “الأوبزرفر” “قمنا باستغلال فيسبوك لجمع بيانات عن ملايين الأشخاص، ووضعنا نماذج لاستغلال ما عرفناه عنهم واستهداف ما يدور بخلدهم. كان هذا هو الأساس الذي استندت إليه الشركة كلها”.[11]

دولة الأخ الأكبر

“البيانات الضخمة” لا تمتلكها الشركات الخاصة مثل أمازون أو جوجول أو بقية مواقع التواصل الاجتماعي، لكن أيضًا الحكومات بمؤسساتها الأمنية والمخابراتية والعسكرية والأجهزة البيروقراطية الأخرى مثل: البنوك العامة، وأجهزة السجل المدني، والمطارات، وبقية المؤسسات العامة.

وفي مساحة “البيانات الضخمة” تحديدًا تتفوق الحكومات على الشركات والقطاع الخاص في تجميع بيانات المواطنين بما تمتلكه من سلطة، ولقدرتها على فرض مشاركة وتمرير البيانات على القطاع الخاص خاصة في فترات الأزمات فضلاً عن تمتع الحكومات بالقدرة على “دمج البيانات” من مصادرها المختلفة الحكومية وغير الحكومية، وزيادة الربط بينها ودمج بياناتها مع توظيف تقنيات التخزين السحابي.[12]

لذلك فالدولة هنا في تحكمها بالبيانات أشبه بـ”الإله” –الذي يعلم السر وأخفى- و”جمهورية الصين الشعبية” هنا مثال نموذجي للغاية لكيف يمكن أن تتحول دولة لأخ أكبر يراقبك، بمفهوم “جورج أوريل” في روايته الشهيرة “الأخ الأكبر”.

من شاهد حلقة “Nosdive” في المسلسل البريطاني الشهير ( Black Mirror) سيدرك أن الأمر يشبه كثيرا ما ستفعله الصين في نظامها الذي تراقب به مواطنيها “نظام الائتمان الاجتماعي (Social Credit System )، لكن ببعد مختلف هنا، في حلقة المسلسل الأفراد يتم تصنيفهم من درجة 1 لـ 5 بناء على تفاعل الناس معهم على مواقع التواصل الاجتماعي، ووفقا لتقييمك يتم تصنيفك طبقيًّا، يتم وضعك في لائحة تحصل بموجبها على خدمات من البنوك، والحصول على مسكن بمنطقة مرفهة من عدمه، والسماح لك بارتياد محلات تجارية أو مطاعم، لو حصلت مثلاً علي تقييم 2 أو 3 سيتم اعتبارك شخص غير موثوق فيه، لو حاولت اجتياز شاطئ مخصص لفئات بعينها، ستتعرف عليك الكاميرات بتقنية الذكاء الاصطناعي لتعرف أن لديك تقييم منخفض لا يتناسب وقيمة الفندق، ليتم طردك بعدها، فالشاطئ مخصَّص فقط لهؤلاء الذين يمتلكون تقييم 4.5 فأعلى.

حلقة المسلسل تناقش هنا “الهوية الافتراضية” أو “رأسمال المال الاجتماعي الافتراضي” المعزَّزة بصورة بعينها على مواقع التواصل الاجتماعي، من خلال عُملة اجتماعية جديدة هي زر الإعجاب ( اللايك)-بتعريف الكندية المتخصصة في التسويق الإليكتروني بايلي يارنل- ومن خلال زر الإعجاب يكسب المرء قيمته بين أصدقائه ومتابعيه.

لكن في النظام الصيني، ومن خلال “نظام الائتمان الاجتماعي”- الذي سيعتمد على قاعدة بيانات ضخمة باستخدام السجلات الحكومية والمالية والجنائية والتعليمية وحتى الطبية للفرد، إضافة إلى تاريخ تصفحه للإنترنت، ومشاركاته على مواقع التواصل الاجتماعي، وعادات التسوق الخاصة به، بعدها يُحدد للمرء نصيب من النقاط، بقدر انضباط المواطن وانضباط سلوكه الذي يتم تقييمه بمراقبة يومية، ستزيد نقاط الثقة في رصيده، فلو قام بعدة أمور مثل: مدح الحكومة الصينية على مواقع التواصل، والانضباط في العمل، والإبلاغ عن متطرفين أو أعداء للدولة حينها يحصل على نقاط تُضاف لرصيده، أما لو لو ارتكب مخالفات مثل نقد سياسات الحكومة على مواقع التواصل، أو ضبط متصفحا مواقع إليكترونية غير مسموح بها في الصين، حينها يتم منعه من السفر للخارج، وإلغاء تذاكر قطاره.[13]

يعُد التعرف على الوجه أحد العناصر في جهود التتبع التي تبذلها الصين في إطار سياسات الضبط المجتمعي، (مصدر الصورة : مجلة التايم)

ومع دخول كبرى شركات الذكاء البرمجي سوق التنافس على تقديم خدمات تتبُّع ذلك الدفق الهائل من البيانات، أصبحت التقنيات الحكومية حسَّاسة للّغة على نحو متزايد، وأكثر قدرة على تحديد مصدر تدفق نوع محدد من البيانات، ما يعنى أن أي عملية بحث حول مواضيع محظورة ومثيرة للجدل، كـ “احتجاجات 1989” أو “مذبحة ميدان السلام السماوي” مثلا، ستضعُ موقع صاحبها تحت مجهر وكالات الأمن السيبرانية الصينية إضافة لحظر الصفحة، وسيكون وصول الشرطة السرية إليه مسألة وقت لا أكثر.[14]

ينظر الفيلسوف التشيكي سلافوي جيجك لـ”الصين” باعتبارها نموذج لما سيكون عليه المستقبل، مستقبل النموذج فيه سيكون للاستبداد، حيث تُدار الرأسمالية بشكل أكثر مثالية من شكل إدارتها في الديمقراطيات الغربية، وبمعنى أكثر دقة وطرافة في ذات الوقت، سنرى الدولة معقل الشيوعية الأكبر في العالم، هي في الوقت ذاته المصنع الرأسمالي الأكبر والأنجح.[15]

الصين- في رأيّ جيجك- تمثل نموذجا مثاليًا للدولة التي تهيمن على مجتمع يبدو منضبطا للغاية، أو يجب ضبطه إلى حد التماهي، دولة تركز اهتمامها على “الجسد” وتتجه إلى الفرد باعتباره “ذاتاً” من الواجب ضبطها وتوجيهها وتقنين حركاتها وسكناتها وفقاً لهوى القائد الملهم، أو صاحب المصنع، وبواسطة قوى القمع الضاربة كثيفة الحضور.

“البيانات الضخمة” -في الوجه الآخر السلبي لها- تمثل أحد الأدوات الجديدة التي يمكن أن تستخدم بكثافة في لجم أفراد هذا المجتمع وضبطه كي يستمر في مهمته للإبد، الإنتاج كي يستهلك ويأكل كفأر تجارب مراقب طوال الوقت في قفصه الحديدي.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

باحث حاصل على الماجيستير في تخصص الأنثروبولوجيا، تتركز دراساته على تطور التنظيمات الاجتماعية والسياسية، والدراسات المتعلقة بالتحولات السياسية وتأثيرها على البنى الاجتماعية. وهو أيضا مهتم بكتابة القصة والسيناريو.


[1] شركة بيع بالتجزئة أمريكية تُعد من كبرى الشركات في العالم من حيث الإيرادات.

[2] Data… data everywhere, The Economist, (February 27, 2020 ),retrieved July 5, 2020: https://www.economist.com/special-report/2010/02/27/data-data-everywhere

[3]  Julie Shah and Neel Shah, Fighting Coronavirus with Big Data, Harvard Business Review, (April 06, 2020), retrieved July 11, 2020: https://hbr.org/2020/04/fighting-coronavirus-with-big-data

[4] Filip Dzuroska, Coronavirus: A Big Data lesson from South Korea, (Apr 28, 2020), retrieved July 12, 2020:  https://towardsdatascience.com/coronavirus-a-big-data-lesson-from-south-korea-5bb703b8b0ae?gi=31f891c0e798.

[5] المصدر نفسه.

[6] [6] ضياء الدين ساردار، الأزمنة ما بعد العادية: نموذج معرفي جديد في الدراسات المستقبلية، ( ترجمة محمد العربي)، برنامج الدراسات الاستراتيجية، مكتبة الإسكندرية، الإسكندرية، 2018، ص 62.

[7] How PredPol Uses Big Data for Predictive Policing, Data Science, (March 27, 2018), Retrieved July 2, 2020 : https://www.datasciencegraduateprograms.com/2018/03/has-big-data-brought-us-closer-to-the-world-depicted-in-minority-report/

[8]  Charles Duhigg, How Companies Learn Your Secrets, The New York Times , Feb.16, 2012, retrieved July 12, 2020: https://www.nytimes.com/2012/02/19/magazine/shopping-habits.html?pagewanted=1&_r=3&hp&

[9] Sasha Issenberg, How Obama’s Team Used Big Data to Rally Voters, Technology Review, (December19,2012), retrieved July 7, 2020 : https://www.technologyreview.com/2012/12/19/114510/how-obamas-team-used-big-data-to-rally-voters/

[10] Cambridge Analytica: Undercover Secrets of Trump’s Data Firm, Channel 4 News, YouTube, March 20, 2018, retrieved July7, 2020:https://www.youtube.com/watch?v=cy-9iciNF1A&feature=emb_title.

[11] الحملة الانتخابية لترامب استفادت من بيانات نحو 50 مليون مستخدم على فيس بوك، فرانس 24، (18 مارس 2018)، تاريخ الاطلاع 10 يوليو 2020: https://cutt.ly/tpWI75E.

[12] علي جلال معوض، تأثير البيانات الضخمة في نظرية العلاقات الدولية، مجلة السياسة الدولية، العدد 219، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، القاهرة، يناير 2020، ص 2.

[13] إيمان عطية، الصين تتربص بشعبها لتقويم سلوكه، القبس، (23 يناير 2020)، تاريخ الاطلاع 3 يوليو 2020 : https://cutt.ly/ApWhHz0

[14] محمد جمال الدين، الأخ الأكبر يراقبك..هكذا صنعت الصين أضخم نظام لمراقبة المواطنين بالعالم، الجزيرة، (17  ديسمبر 2028)، تاريخ الاطلاع  8 يوليو 2020 : https://cutt.ly/qpnXkN0.

[15] علاء خزام (ترجمة)، سلافوي جيجك: الاستبداد (قد يكون) مستقبل العالم والثورة التقليدية جنون!، مونت كارلو، (20 ديسمبر 2018)، تاريخ الاطلاع 7 يوليو 2020 : https://cutt.ly/dpWbrWv.


عن المؤلف

أحمد عبدالحميد حسين كاتب وباحث ماجيستير في الأنثروبولوجيا الاجتماعية، مهتم بدراسة الحركات .الاجتماعي

Leave a Reply

Discover more from The Asfari Institute for Civil Society and Citizenship

Subscribe now to keep reading and get access to the full archive.

Continue reading