حسان عباس
معهد الأصفري للمجتمع المدني والمواطنة
ليس الكوفيد-19 أول وباء عرفه التاريخ، ولا شيء يسمح بالاعتقاد بأنه سيكون الأخير. وليس أخطر وباء أصاب البشرية ورجاؤنا طبعا ألا تعرف ما هو أخطر منه. لكن ربما كان أكثر وباء شغل الناس والحكومات عبر العالم وتفاعلت الدنيا مع تطوره، وتأثرت بكل ما ينقل عنه من أخبار صحيحة أو شائعات أو أكاذيب في ما يشبه الهيجان الإعلامي الذي لم يتردد علماء ومفكرون وسياسيون ورؤساء دول عن الانخراط فيه.
من الواضح أن عمق انشغال الناس بالوباء عائد إلى عدد من الخصائص المرتبطة بالفيروس نفسه ومنها سرعة انتشاره وصعوبة التعرف عليه وتخبط المرجعيات الصحية في سبل معالجته والحماية منه؛ لكنه عائد أيضا لحجم التساؤلات التي أطلقها حول العيش المشترك وسبل إدارة هذا العيش، أي حول المواطنة بمعناها الأوسع، المواطنة كعلاقات تنبني بين المواطن والحكومة وبين المواطن والمجتمع ليس بهدف صهر المواطنين في قالب ينتج مواطنا مؤحّدا خانعاً راضيا بما يقسمه له النظام، وإنما بهدف المساعدة على زيادة رقعة الحريات والحقوق وتحقيق قدر أكبر من العدالة الاجتماعية بدون التفريط بكرامة المواطنين وبدون قمع قناعاتهم وثقافاتهم على اختلافاتها.
مع توضّع الوباء في العالم، وجدت المواطنة نفسها أمام امتحان مفصلي يعيد نقاش البديهيات التي تواضع البشر على اعتمادها كمبادئ أو كقيم للمواطنة، ويطرح التساؤل عن حالها وعن مدى تأثرها بإجراءات مواجهة الوباء.
تتصدر الحرية مبادئ المواطنة لأنها غاية الإنسان وشرط وجوده، وليس من العبث القول إن السعي نحو مزيد من الحرية للمواطنين هو في أصل كل التنازعات القائمة بينهم وبين السلطات، سواء أكانت سياسية أم اجتماعية أم اقتصادية أم ثقافية. إن نظرة متفحصة على العالم قبل توضع الوباء تظهر حجم التراجع في الحريات في الدول كافة وإن بدرجات متفاوتة. ولعل الدول الديمقراطية هي التي سجلت أكبر قدْر في ذاك التراجع نسبةً إلى الوضع الجيد الذي كانت تعرفه في العقود الماضية. وتتلخص أسباب ذاك التراجع في عدد من الأسباب الرئيسة أهمها:
1- نمو الحركات الشعبوية وتزايد قوتها اجتماعيا، بل وتمكنها من السيطرة على السلطات السياسية في العديد من البلدان.
2- انتشار الأفكار العنصرية، وإيديولوجيات التعصب القومي والديني، وبخاصة ضد المهاجرين واللاجئين والمهمشين.
3- التوجه نحو المزيد من التضييق على حرية التفكير والإعلام والاستعلام، والرقابة على الصحافة والنشر.
وقد أدت هذه الحال إلى تفاقم العوز في تحقق المواطنة على مستوى العالم، على الرغم من تكوّن بعدٍ جديد “المواطنة العالمية” يجهد لحشد النضال من أجل المزيد من حقوق المواطنة على صعيد كوني عابر للحدود.
مع انتشار الوباء، وجدت الأنظمة فرصتها الذهبية لتتمادى في التضييق على الحريات بذريعة أولوية محاصرة انتشار الوباء، ولم تتوان عن استغلال تعليق الحياة السياسية، وتضييق الفضاءات الاجتماعية لفرض إجراءات ما كان بمقدورها الإقدام على فرضها بسهولة في الحالات الطبيعية.
لم تكن حال المساواة، وهي مبدأً آخر من مبادئ المواطنة، أحسن من حال الحرية. وإن كان من الصحيح أن البشرية لم تعرف على امتداد التاريخ حجم خيرات كالذي تملكه اليوم فمن الصحيح أيضا أنها لم تعرف قطّ قدرا من اللامساواة في اقتسام هذه الخيرات كالذي تعرفه اليوم. وفي شتى المجالات: في التكنولوجيا المتقدمة والخبرات الإنتاجية والمعارف العلمية والموارد المتاحة، إلخ. ورد في دراسة نشرها موقع “دفاتر التنمية المستدامة” التعليمي أن ال20% الأغنى من سكان العالم عام 1989 كانوا يستأثرون ب82.7% من مداخيله في حين كان ال20% الأفقر يستأثرون ب 1.4% من المداخيل فقط. وعلى الرغم من قدم هذه المقارنة نسبيا ليس ثمة ما يجعلها غير صحيحة اليوم إذ من المعروف أن العولمة ما فتئت تفاقم، من سبعينيات القرن الماضي، التفاوت في توزيع الثروات على مستوى العالم. ومن جهة أخرى تشير كل مراصد اللامساواة في العالم إلى تعاظم اللامساواة الاقتصادية ليس بين الدول الغنية والفقيرة فحسب وإنما أيضا بين الأغنياء والفقراء، الرجال والنساء، سكان المدن والضواحي، إلخ. داخل أغلب بلدان العالم.
ولا تنحصر اللامساواة في ميدان الاقتصاد فحسب وإنما تمتد إلى كافة مجالات الحياة وقد كشف الوباء حجمها في القطاع الصحي حيث تبيّن مدى أثر السياسات النيوليبرالية على هذا القطاع الذي انسحبت الحكومات منه تاركة المجال لنمو القطاع الخاص مما أسس لنظام صحي لا متساوٍ يدور بسرعتين مختلفتين: صحة المتمكنين ماليا القادرين على الاستفادة من التقدم الطبي ومن الاستشفاء في المشافي الخاصة وصحة الآخرين المتروكين لرحمة القطاع الحكومي المُفَقّر ذي البنية التحتية المهترئة. لقد تبين في فرنسا مثلا أن واحدا من أهم أسباب ارتفاع عدد الوفيات بين المصابين بالكورونا هو ضعف البنية التحتية الصحية العامة والتي كان من مظاهرها التراجيدية تراجع عدد الأسرة في المشافي العامة بمقدار مائة ألف سرير خلال العشرين عاما الماضية.
من الخطأ أن ننظر إلى المواطنة من زاوية العلاقات القائمة بين المواطنين والحكومات فحسب وننسى أنها تعني أيضا العلاقات التي تتوضّع بين المواطنين أنفسهم وتفرضها ضرورات العيش المشترك. وتحكم هذه العلاقات إضافة إلى مبادئ الحرية والمساواة والمسؤولية والتشاركية، مجموعة من القيم التي يفترض أن يكتسبها المواطنون في سيرورات تنشئتهم الاجتماعية. تبدو قيم الوعي المدني والتضامن والكياسة والإنسانية أسمى هذه القيم وأكثرها وضوحا في العلاقات المواطنية، ويمثل وجودها أو غيابها المحك الذي تقاس على أساسه مواطنية الناس.
لقد وفّرت الظروف التي أوجدها وباء الكورونا مجالا استثنائيا لمعايرة مدى تمثّل المواطنين لقيم المواطنة، وبالتالي لمعرفة حال المواطنة في شتى الدول. لا شك أن كثيرين منا سيصابون بخيبة الأمل والإحباط إذا ما نظروا إلى النصف الفارغ من الكأس. إلى مظاهر ضعف الوعي المدني لدى مواطنين رفضوا الامتثال لتعليمات الجهات الصحية العاملة على تخفيف انتشار الوباء فتجمّعوا في أماكن عامة دون أي وقاية، أو لدى جماعات من أنصار الجمهوريين في عدد من الولايات الأميركية أو اليمين المتطرف في أسبانيا، أو لدى جماعات من المتدينين خرجوا في مظاهرات في عدد من المدن في المغرب ومصر والباكستان يكبّرون ضد الفيروس في ما اعتبروه تحدياً للحجر الصحي، أو في اجتياح زبائن للمجمعات التجارية للحصول على أكثر ما يستطيعون تخزينه من مواد غذائية وتنظيفية. وقد تكون النظرة أكثر تشاؤما ويأساً نسبة للأخبار المتواترة عن حدوث حالات تمييز بين المرضى المحتاجين لأجهزة التنفس الاصطناعي الشحيحة على أساس العمر أو الجنسية أحيانا.
غير أن المشهد العام على امتداد العالم يعطي صورة أقل قتامة، ويظهر أن قيم المواطنة ليست متراخية إلى هذا الحد. فوسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي ملآى بالأخبار من كل حدب وصوب عن مبادرات تضامنية لتقديم المساعدات والغذاء للمسنين المحجورين في بيوتهم، أو للعمال الذين توقفت أعمالهم اليومية، أو للاجئين والمهاجرين الذين انقطعت بهم السبل، أو للتلاميذ المنقطعين عن التعليم في بيوتهم، أو للعاملين في القطاع الصحي المستنفرين في خندق الدفاع الأول، وغيرها الكثير.
وضعت الكورونا المواطنة أمام امتحان خطير كشف العوز في تحققها بسبب سياسات الفساد والعنصرية والشعبوية والتطرف لكنه أظهر أيضا وبشكل لا يحتمل اللبس مقدار القوة الكامنة في المجتمع المدني بمنظماته ومجموعاته وأفراده الناشطين، هذا المجتمع الذي يخترع المبادرات ويبدع النشاطات ويطلق الحملات ليثبت ميدانيا أن المواطنة ليست فكرة نظرية جذّابة فقط بل قوة حقيقية فاعلة وقادرة على مقاومة الأنظمة والسلطات وعلى الضغط عليها للجم تغولها.
عن المؤلف
الدكتور حسن عباس هو مدير برنامج أبحاث “الثقافة كمقاومة” في معهد الأصفري للمجتمع المدني والمواطنة.
Leave a Reply