اقتصاداتنا الريعية أكثر عرضة الإصابة بآثار كورونا

محمد جاد

قبل أيام عدل صندوق النقد الدولي من توقعاته للناتج المحلي الإجمالي خلال 2020، بحيث رجح أن تنكمش الاقتصادات المصدرة للنفط في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في هذه السنة بـ 4.2% بعد أن كان يتوقع لها النمو بـ 2.1 في وقت سابق.

والسبب الرئيسي وراء هذا التحول الكبير في توقعات الصندوق يُعزى إلى انهيار أسعار البترول خلال تداعيات وباء كورونا.

لذا فإن الطابع الريعي المهيمن بدرجة كبيرة على اقتصادنا العربي يجعل مناعته ضعيفة أمام أزمات عالمية من هذا النوع، وقد جاء الوباء في الوقت الذي كانت فيه بلداننا النفطية لم تتعافى بعد من أزمة انهيار أسعار الطاقة في 2014، مما يزيد من تحدياتها الاقتصادية في الوقت الراهن، ويجعل من تنويع مصادر النمو الاقتصادي مسألة أكثر إلحاحا.

اقتصاد غارق في النفط

يمثل الريع الآتي من الإيرادات النفطية نسبة كبيرة من ناتج العديد من بلداننا العربية، فهو يتجاوز العشرة في المائة في العديد من البلدان العربية المصدرة للنفط ويقترب من الـ 40% في بعض الحالات، علما بأن مساهمته في ناتج بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تقتصر على 0.2%.

وبقدر ما تمثله المصادر النفطية من مصدر للثراء السهل إلا أنه يشكل عبئا على الاقتصاد في المدى الطويل، حيث يصبح النشاط النفطي وكل الأنشطة المرتبطة به بل وميزانية الدولة نفسها عرضة للتقلب المستمر مع تذبذبات أسعار الخام في الأسواق العالمية، وطبعا تتزايد التقلبات في أوقات الأزمات العالمية.

وكما يظهر من الرسم التالي، ففي فترات ارتفاع أسعار النفط العالمية، مثل الفترة التالية لحرب أكتوبر 1973 أو خلال العقد الأول من الألفية يرتفع نصيب الريع النفطي من الناتج إلى نسب هائلة تقترب من 50% أو من 90% في بعض الحالات، ولكن سرعان ما تنهار الأسعار وتتراجع معها مساهمة النفط في الاقتصاد.

المصدر: بيانات البنك الدولي.

وبالعودة إلى الأزمة الأخيرة، فقد قدر صندوق النقد الدولي في تقريره الصادر في أبريل عن التوقعات الاقتصادية، بمناسبة تداعيات وباء كورونا، أن أسعار النفط خلال الوباء تراجعت بأكثر من 60% خلال العام الجاري وأن هذه الأسعار قد تتسبب في خسائر اقتصادية للبلدان المصدرة للخام في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بأكثر من 230 مليار دولار.

وفي هذا السياق تقول المؤسسة الدولية إن “الأزمة الراهنة سلطت الضوء بقوة على هشاشة المنطقة لتذبذبات أسعار النفط”.

الهشاشة الاقتصادية التي يتحدث عنها الصندوق تبدو واضحة في توقعاته للميزان المالي الكلي لبلداننا النفطية خلال 2020، فهو يرجح أن العجز المالي لدى المملكة السعودية سيتضاعف ثلاث مرات تقريبا، من 4.5% من الناتج الإجمالي في 2019 إلى 12.6%.

 وستسجل كل من الكويت والإمارات عجزا مقاربا عند نحو 11% من الناتج. وفي الجزائر سيصل العجز إلى الضعف عند 20%.

المصدر: بيانات صندوق النقد الدولي ( 2020 توقعات ).

 وتنقل رويترز عن بنك الاستثمار “أرقام”  قوله إن “الصورة العامة المالية للخليج تتدهور بشكل حاد مع أسعار النفط عند 30 دولار للبرميل”.

 وينخفض سعر خام برنت في الوقت الراهن عن مستوى 30 دولار للبرميل.

ويشير تقرير رويترز إلى أن الوضع المالي في الخليج يبدو أكثر وطأة على صغار منتجي النفط، وهم تحديدا البحرين وعمان، واللذان يتوقع لهما صندوق النقد عجزا بنسب 15.7% و16.9% على التوالي.

وحتى في حالة بلد مثل مصر والذي لا يُصنف ضمن البلدان المصدرة للنفط، فإن للريع النفطي تأثير كبير على اقتصاده، يتمثل في النسبة الكبيرة للاستثمارات البترولية من إجمالي الاستثمار الأجنبي، والتي تصل لنحو 75%.

وتشير العديد من التوقعات إلى أن وباء كورونا يساهم في إحباط قطاع واسع من الاستثمارات النفطية، بالنظر إلى أن انهيار سعر برميل البترول يقوض من أرباح هذه الاستثمارات.

وقد توقعت أونكتاد أن يتسبب كورونا في تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر بما يتراوح بين 30 إلى 40% في الفترة بين 2020 و2021، وأن استثمارات قطاع الطاقة ستكون من أكبر المتأثرين.

هذا بجانب التأثيرات غير المباشرة على بلدان مثل مصر وغيرها في المنطقة، ممن يعتمدون بشكل رئيسي على توفير تدفقات النقد الأجنبي من إرسال العمالة إلى أسواق الخليج، وتتأثر الوظائف في الخليج بطبيعة الحال بالتباطوء الاقتصادي الناتج عن انهيارات أسعار الطاقة.

6 سنوات بين أزمتين

ما يفاقم من آثار الأزمة الراهنة هو أنها تأتي بعد نحو 6 سنوات من أزمة انهيار سابق في أسعار النفط سنة 2014، والذي لم تكد بلدان النفط تتعافى منه.

وكما يظهر من الرسم التالي، فإن هذه البلدان عانت من انخفاض قوي في معدلات النمو الاقتصادي منذ 2014 ولم تستطع العودة للنمو بقوة حتى 2019، فهي تكافح لكي لا تسقط في الانكماش الاقتصادي.

المصدر: بيانات البنك الدولي.

وتحت وطأة الأزمة السابقة استعانت البلدان النفطية باحتياطياتها من النقد الأجنبي لتغطية نفقاتها المالي، ومن المرجح أن تتعرض هذه الاحتياطات للمزيد من التآكل خلال الأزمة الحالية.

ويبدو تدهور الاحتياطي أمرا حاضرا بقوة في حالة الجزائر، التي كانت تتمتع باحتياطيات في 2013 بأكثر من 200 مليار دولار وتراجعت تدريجيا حتى بلغت نحو 87 مليار دولار في 2019، وفي مارس قالت السلطات إن الاحتياطي بلغ 60 مليار دولار وأن تداعيات انهيار أسعار النفط ستظهر على الاقتصاد بعد شهرين.

ويظهر النزيف أيضا في احتياطات السعودية التي كانت تتجاوز 700 مليار دولار ثم تراجعت لنحو 500 مليار دولار خلال نفس الفترة.

واللافت أن الدين العام في السعودية كان بدأ يتخذ منحى تصاعديا منذ أزمة 2014، بما يعكس توسع المملكة في الاعتماد على الديون لسد العجز المالي، ويظهر من بيانات الدين الحكومي للناتج الإجمالي كيف ارتفعت هذه النسبة بشكل واضح منذ هذا التاريخ.

 فقد أصدرت البلاد في يوليو 2015 أول سند سيادي منذ 2007، وفي 2016 لجأت السعودية للأسواق لإصدار أول سند دولي لسد احتياجاتها المالية.

وخلال الأعوام الأخيرة استدانت بكثافة لكي تعوض نقص الإيرادات الناتج عن ضعف أسعار النفط، وفي مارس الماضي زادت المملكة من السقف المسموح به للاستدانة من 30% من الناتج إلى 50%، وقالت المملكة إنها ستصدر ديونا هذا العام بقيمة 118 مليار ريال، كما رجحت تقارير أن تلجيء الرياض للاستدانة من الأسواق الدولية، بعد أن ساهم اتفاق أوبك الأخير لخفض الإنتاج في تقليص الإيرادات المتوقعة لهذا العام بنحو 40 مليار دولار.

ومن قبل أزمة كورونا، كان المستقبل المالي لبلدان مجلس التعاون الخليجي يبدو غير مطمئن، فقد حذر صندوق النقد الدولي هذه المنطقة في تقرير بداية هذا العام من تراجع الطلب المستقبلي على النفط بسبب عدة عوامل منها تشديد الإجراءات للحد من الانبعاثات الحرارية، وأن هذا التراجع قد يؤدي إلى إنفاق كل الثروة المالية لهذه البلدان، التي تقدر بتريليوني دولار في 2034، وتم بناء هذا التوقع على أساس سعر لبرميل النفط بـ 55 دولارا، وهو ما يزيد بكثير عن الأسعار المتداولة في الوقت الحالي.

محاولات متأخرة لتنويع الاقتصاد

إن تاريخ أسعار النفط هو سلسلة من الأزمات المتوالية، وقد ربطت اقتصادتنا النفطية مصيرها به، وحتى مع محاولاتها للفكاك من أسره كانت هذه المحاولات تتعرض للانقطاع بسبب تغلغل إدمان النفط في أوردة الاقتصاد.

فقد كانت هناك أزمة 1985، عندما بدأت المملكة السعودية في حرب أسعار للحفاظ على حصتها في السوق، ثم الأزمة المالية في جنوب شرق آسيا عام 1997 والتي أدت إلى انهيار في الطلب على الطاقة، ثم أزمة 2014 التي نتجت عن ارتفاع إنتاج حقول النفط الصخري في الولايات المتحدة.

وقبل انهيار الطلب مجددا بسبب إجراءات حظر السفر والتحرك في العديد من البلدان تحت وباء كورونا، كانت الأسعار تتهاوى بسبب حرب الأسعار بين روسيا والسعودية بهدف الحفاظ على حصة كل منهما في السوق العالمي، وقد تم الحد مؤقتا من هذه الحرب بفضل اتفاق بين أوبك وروسيا على خفض الإنتاج، والذي تم بضغوط أمريكية، وفقا لمصادر رويترز.

وقد سعت السعودية منذ أزمة 2014 إلى تنويع الاقتصاد، من خلال الانفتاح على السياحة وقامت بخصخصة جزء من أرامكو لتوفير أموال تُستثمر في الاقتصاد المحلي ولسد الفجوة في المجالات التي لا يقدر القطاع الخاص على الاستثمار فيها.

 وتقول الإيكونومست إن صندوق الاستثمارات العامة للمملكة كان يتوسع خلال السنوات الأخيرة في شراء أسهم في شركات خارجية تتسم استثماراتها بالمخاطر،بعد عقود كان البنك المركزي يستثمر خلالها جزء ضخم من ثروات البلاد في السندات وغيرها من المجالات منخفضة المخاطر، لكن هذه الطموحات قد تعوقها حالة الكساد التي يدخل فيها العالم تحت تأثير الوباء.

وبينما يوصف اقتصاد الإمارات بأنه من الأكثر تنوعا بين بلدان مجلس التعاون الخليجي، حيث يمثل قطاع النفط 30% فقط من الاقتصاد، فإن إمارة دبي يبدو وكأنها أدمنت نوعا آخر من الريع وهو الريع العقاري، وقد بدا هذا القطاع في أزمة من قبل الوباء.

ففي نوفمبر الماضي نشرت بلومبرج تقريرا يتحدث عن أن هناك أزمة فائض في المعروض العقاري في الإمارة وأن أسعار العقارات هناك انخفضت بنحو 27% منذ 2014.

وسيدخل النشاط العقاري والسياحي في دبي في أزمة جديدة في حال امتداد آثار أزمة كورونا لفترة طويلة، خاصة وأن الإمارة كانت تُرتب منذ 2013 لفعالية اكسبو سيتي 2020 والتي يُتوقع أن يتم تأجيلها بسبب الخوف من انتشار عدوى كورونا.

ويتسبب الاعتماد على النفط في جعل أزمات مثل وباء كورونا تنطوي على مخاطر سياسية أيضا، فالعديد من التحليلات تشير إلى أن السلطات في الجزائر استطاعت أن تتجنب احتجاجات الربيع العربي بفضل توسعها في الإنفاق الاجتماعي، وهو النمط الذي أصبح مهددا مع أزمات انخفاض أسعار البترول المتتالية.

وقد جاءت أزمة وباء كورونا بالتزامن مع الاحتجاجات في الجزائر بسبب عدم الرضا على إجراءات التحول الديمقراطي خلال العام الماضي، واضطرت الحكومة في مارس تقليص الإنفاق العام للاستجابة للانخفاض المتوقع في إيرادات البلاد من النفط، لكن هذا التقشف لم يمس أجور العاملين بالحكومة، مما يعكس رغبة السلطة في المضي في سياسات الإنفاق الهادفة لكسب الولاء الاجتماعي، لكن إلى أي مدى ستصمد الموازنة الجزائرية مع التراجع المستمر في ريع البلاد النفطي؟ هذا ما سيتضح خلال السنوات القادمة.

باختصار، فإن التداعيات الاقتصادية لوباء كورونا كشفت عن واحدة من أبرز نقاط الضعف في الاقتصادات العربية وهي الإسراف في الاعتماد على الريع النفطي، وأن المنطقة في أمس الحاجة إلى التوسع في أنشطة أقل عرضة للتأثر بالأزمات وعلى رأسها بطبيعة الحال الصناعات غير البترولية.

صحيح أن أزمة وباء كورونا طالت كل البلدان، وأصابت الدول المتقدمة ذات النصيب الأوفر من الصناعات التكنولوجية بالركود، نظرا إلى أننا أمام أزمة غير مسبوقة تعطل كلا من مواقع العمل ومواقع الشراء والتسويق، وتنتج معدلات بطالة سريعة وهائلة، ولكن على المدى الطويل لم يعتد العالم أن يشهد أزمات مثل كورونا ولكنه اعتاد أن يتعايش مع أزمات انهيار أسعار النفط المتتالية.

لقد كان انهيار أسعار الطاقة في مارس الماضي عرضا من أعراض الوباء، ولكن الوباء نفسه سينتهي في المستقبل القريب مع اكتشاف علاج له، وستظل الاقتصاديات المتقدمة هي الأكثر حظا في التنمية بفضل قاعدتها الصناعية والتكنولوجيا،  بينما ستظل الاقتصادات الريعية هي الأقل حظا في التنمية بسبب تعرضها المستمر لتقلبات أسعار النفط.


عن المؤلف

صحفي يعمل على تغطية الاقتصاد المصري منذ .2003

Leave a Reply