التعليم في صميم الثورة

رنا عيسى

قررت ابنتي أن تشارك في مظاهرات طلاب المدارس في الأسبوع الثالث من الثورة، قرار لم أكن لأتوقّع مثله في حياتنا المنزلية. رحبت بالمبادرة وسألتها ما الذي أرغبها في النزول إلى الشارع التحاقًا بأترابها. قالت إنها منذ أن انتقلت إلى لبنان قبل ثلاث سنوات تقريبا وهي لم تستوعب بعد الفلسفة التعليمية للمدرسة الخاصة التي ترتادها. قالت أنها سئمت التربية المدرسية التي تعلم أبناء الأثرياء كيف يصبحوا أجانب في بلدهم. تقول لي إنّه منذ بدء الثورة وهي تشعر أنها خارج الدائرة الثورية. فهي لا تجيد قراءة العربية بعد مع أنها تتعلم اللغة العربية في المدرسة منذ أن انتقلنا إلى لبنان منذ ثلاث سنوات. تظل تشكوني من حصة اللغة العربية في مدرستها لا سيما وأنّ أستاذة اللغة العربية تجبرها على تعلم الفصحى والاعراب وهي التي لا تعرف كيف تلقي السلام على الناس. تتضايق لكونها غير قادرة على فك طلاسم الهتافات والغرافيتي والأحاديث السياسية المتداولة حولها. تقول إنها ليست وحدها بين أترابها من لا تجيد العربية وإن الكثير من التلاميذ الذين يزدرون اللغة ويمقتون حصة العربي. ماما، إنهم لا يعلموننا أي تاريخ أو أدب أو اجتماعيات يخصّ البلد الذي نتواجد، كل شيء نتلقاه يخص بلدانا لا تمت لنا بصلة وبلغة ليست لغة البلد. سألتها لماذا برأيك لا تُعنى المدرسة بنشر المعرفة عن لبنان، فأجابت أنهم لا يريدون للأثرياء أن يختلطوا بعامة الناس، لذلك يربونهم على القطيعة مع المجتمع الذي يفترض أن يرثوا هم دفة قيادته. إما ذلك أو أن الأهل يريدون لأولادهم أن يهاجرون ولا يكون من المدرسة إلا أن تغذّي هذه الرغبة لديهم.

لم تكن ابنتي يوما مهتمة بالسياسة. منذ أن انتقلت إلى لبنان تمتعت بامتياز طبقي كان يروق لها لسهولته مع أنها كانت دوماً تشكك بأخلاقياته. لكنها وعلى الرغم من ذلك طفلة وكغيرها من الأطفال تحب اللذات اليومية والصغيرة من الحياة، عالمها محمي من أوساخ المجتمع اللبناني وأدرانه على قولة عالم الاجتماع على الوردي، تحب الأشياء. فمن أين يا ترى تبلور هذا الوعي السياسي لديها فجأة؟  كيف حصل أنها والآلاف غيرها من طلاب المدارس أثبتوا أنهم أصحاب وعي سياسي يفطن للرابط بين الوضع الكارثي في البلد وبين المناهج التربوية في مدارسهم. لا تنفكّ المدارس في تمعن الفشل في أداء وظيفتيها التعليمية كما الاجتماعية. فهم تلامذة المدارس هذا الفشل فنزلوا إلى الشارع. التقى تلامذة المدارس الخاصة مع طلاب المدارس الرسمية وسوية بدأوا بالتعرف  على بعض وبالتفتيش عن أرضية سياسية مشتركة بينهم. 

 في الأسبوع الثالث من الثورة، انتفض طلاب المدارس. انتفضوا على الإهمال الكامل لهم من قبل السلطات. وصلت مشاكل المدارس في لبنان إلى درجة تعجيزية من التعقيد. حدد التلاميذ المسؤولية عن الكارثة التعليمية على وزارة التربية المعتكفة عن عملها. هذه الوزارة لطالما أجازت للمدارس الخاصة والرسمية الحرية الكاملة في تحديد برامج التعليم والنشاطات المدرسية على هواها. علاوة على ذلك فطاقم المعلمين يعيش في ذل اقتصادي ووظيفي يتفاقم منذ عشرات السنين. الأزمة تبدأ من تسجيل التلاميذ الجدد فالإدارات تنتقي الطلاب الجدد بحسب الواسطة أو القدرة المادية للأهل ومع ذلك تسمح لنفسها بأن لا تتحمل مسؤولية الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة. وفي ظل غياب أي فلسفة تعليمية واضحة فأسلوب التعليم في معظم المدارس عبارة عن تدريب الطفل على علاقة مع السلطة تعيد فرز الإخضاع  وتقويض الفكر النقدي والضغط على الطلاب ليقبلوا أيديولوجيا معلميهم ومدرستهم ويعيدوا انتاجها كأنها علم وحقيقة. في المجمل لن تجد في لبنان أي مدرسة مستقلة عن مظلة المنظومة السياسية الحاكمة في البلد: إما طائفيا أو طبقيا. لذلك فإن ما يثور عليه الطلاب داخل أسوار مدارسهم هو في صميم ما نثور عليه في الشوارع اليوم: نظام كامل لم نبدأ نتشرّبه إلا في المدرسة. 

 يتفاقم الجو الموبوء في المدارس اللبنانية في ظل انحسار كامل لوزارة التربية عن السياسة التعليمية. هذا ما سمح للقطاع الخاص بالاستحواذ على التعليم وفرض أنواع شتى من الشهادات الرسمية لطمأنة هواجس الأهل لتأمين تعليم عصري لأولادهم. ذوو المقدرة المادية لهم أن يختاروا بين عدة شهادات أوروبية أو أميركية، مما يسمح لأولادهم بأن يتماشوا مع العولمة ونُظُم التعليم الغربية أو المعترف بها في الغرب فيصبحون منفصلين عن فضائهم الحسي. في تلك المدارس أمثال مدرسة ابنتي يردد الأطفال دوما نفورهم من اللغة العربية. إنه شعور غريب نظرا لكون العربية لغة الشارع والمجتمع والدولة التي تتواجد فيها مدرستهم ولكن الأكثر غرابة هو إهمال إدارة المدارس لنفورهم هذا إهمالا مطلقا، حتى أن بعض معلمي اللغة العربية أنفسهم يؤكدون لطلابهم وأهاليهم كرههم للمادة التي يعلّمونها. في سياق عملي كأستاذة جامعة وتخصصي في الأدب والترجمة، أضطر يوميا لمواجهة هذه النفور اللامنطقي من العربية المتفشية بين الطلاب. بالكاد أتعرف على طالب أو طالبة مقتنع بضرورة دراسة العربية من أجل تنمية قدراتهم الأدبية والنقدية التي توثق علاقتهم بمجتمعهم. وفي كل فصل عندما يتعرف طلابي (بأغلبيتهم الساحقة) على روايات ونصوص، قديمة كانت أم معاصرة، لبنانية مشرقية كانت أم من بلدان عربية أخرى يستوقفني ذهولهم لما تتضمنه من مفاهيم وسرديات أساسية في حياتهم لم تعنى المدرسة في تطويرها. في كل فصل يصيح أحد الطلاب في الصف: لا يعلموننا تاريخ بلدنا في المدرسة. نحن لا نعلم شيئاً. 

إذًا النظام الطائفي اللبناني يعيد إنتاج نفسه في المرتبة الأولى في المدارس. في غالبيتها تتكون المدارس الخاصة من مجموعات وأحزاب دينية وطائفية تجذر الانقسام السياسي الذي يقوم عليه البلد في ذهنية الطفل منذ نعومة أظافره وتضع الأهل في علاقة زبائنية مع المؤسسة الدينية يصعب عليهم الاستقلال عنها في ظل الانهيار الحاصل في المدارس الرسمية. من منا نسي جورج زريق الأب الذي أحرق نفسه أمام مدرسة طفلته لأنه يم يعد قادرا على دفع الأقساط فرفضت إدارة المدرسة حتى إعطاءه إفادة مدرسية تمكّنه من نقل إبنته إلى مدرسة رسمية بحجة أن الأب لم يسدد الأقساط المستحقّة عليه. 

أضحى هذا الاهمال جليا السنة الماضية مع صدور نتائج امتحانات البريفيه والباكالوريا الرسمية عن وزارة التربية إذ الطلاب الذين أدرجوا في لائحة الناجحين اكتشفوا بعد أيام أن الوزارة ارتكبت خطأ مجهول ارتكبته الوزارة فأصبحوا في عداد الراسبين وأضاعوا سنة من عمرهم.

قصص كثيرة يذكرها الناس عن الفشل التعليمي في لبنان. لذلك أجبر التلامذة مدارسهم على الإغلاق والتقوا للمرة الأولى في الشارع ليكتشفوا ونكتشف معهم أنهم قادرون على التنظيم والتحرك وكسر كل القيود الطبقية والطائفية التي يكرسها النظام التعليمي اللبناني. كنا نحن الأهل نفترض بأن أبناؤنا ينتمون لجيل يهتم فقط بالاستهلاك وبالالتحاق بآخر صيحات الموضة، فأتت مظاهراتهم لتعلمنا أن هذا الجيل مثلنا لا يطيق المجتمع الذي قد تشكل حوله. تلك كانت من أجمل لحظات الثورة بالنسبة لي كأم لتلميذة مدرسة. ذهلنا جميعا من قدرة الثورة على الحث على تشكل وعي جماعي حتى بين صفوف صغارنا. فكما بات معروفا الآن بدأت ثورتهم رداً على رسالة صوتية على الواتس آب من مديرة مدرسة عبرا، تلك الراهبة التي وضعت في سلم أولوياتها انتمائها الحزبي فهددت الطلاب بفصلهم عن المدرسة إذا شاركوا في التظاهرات. الترهيب الممارس من قبل مدرسة عبرا كان كفيلاً بتبيين وحدة النضال بين كل تلامذة لبنان، كأنهم جميعاً يرزحون تحت وطأة سلطة مدرسية لا تخضع لأي محاسبة بل تخضعهم لحساباتها السياسية والزبائنية والطائفية الفاسدة. تفعل المدارس ما تشاء بحق التلامذة بدون مساءلة، وإن لم تهددهم علنا لنشاط سياسي كما فعلت مديرة عبرا، فيبقى الإرهاب الاقتصادي تهديدا بالطرد والتبرم الإداري من أي طفل قد يعبر عن اختلاف في تكوينه ونوع ذكاؤه أو خياراته وذوقه ما قد يعرضه كذلك لطرد أو التنقل المستمر من مدرسة إلى أخرى. 

إن مدارس لبنان برمتها تشكل منظومة فاشية، حتى تلك المدارس “الراقية” المتاحة عادة لفاحشي الثراء فحسب (ونشدد هنا على فحش ثرائهم) والتي تدّعي الانفتاح والديمقراطية في التعامل مع التلاميذ. كل من يربّي أطفالا في لبنان يشكو من المدارس مهما كان وضعه المادي ومكانته الاجتماعية ونفوذه السياسي. لا يهم إلى أي مدرسة ينتسب الطفل. سواء أكان لناحية الإجحاف المتواصل بحق السلك التعليمي من بخس المعاشات الذين بالكاد يكفي الراتب الشهري لحاجياتهم الأساسية لأكثر من عشرة أيام.أ ضف إلى ذلك المحسوبيات والسلبطة على التلاميذ، الذين ألقوا  بمسؤولية الكارثة التعليمية على عاتق وزارة التربية رافضين الاستمرار بسياسات الاجحاف بحقهم واستغبائهم من خلال نظم تعليمية منسلخة عن حاجات المجتمع.

وضع المدارس في لبنان كارثي. نقطة على السطر. إن المنظومة المدرسية ببنيتها تعلم أولادنا التطبيع مع الطغمة الحاكمة ولذلك كان لنزول تلامذة المدارس إلى الشارع تأثير معنوي كبير على بقية جوانب الثورة. كان نزولهم تأكيدا على رفض حال المدارس التي نمتنع عن توعيتهم عليها عنهم لعلنا نَقيهم شرّ المواجهة مع العنف الطبقي والطائفي (على الصعيد المعنوي والملموس) الكامن في المؤسسات التعليمية في البلد. نزولهم إلى الشارع سمح لنا كأهل بأن نتواصل مع أبنائنا بشكل لم نعهده و نبدأ بحوار غير مسبوق معهم حول البيئة المدرسية التي ينتمون إليها. لا خروج من نفق الطائفية والفساد بدون التغيير الجذري في النظام التعليمي في لبنان، هذا ما قاله الطلاب الذين لا يطيقون أن يروا أهلهم يحرمون أنفسهم من بديهيات الحياة من أجل تأمين أقساط باهظة الثمن لسلعة تعليمية فاسدة تعيد إنتاج الشرخ الطائفي واللامساواة الطبقية بدل من أن ترمم اللحمة الاجتماعية بين اللبنانيين. 

إذا كانت البنوك تسرق أموالنا تأتي المدارس لتسرق أعمارنا. منذ أسبوع انتحر ناجي الفليطي لعدم قدرته على اعطاء طفلته خرجية بسيطة. بعد هذه الحادثة بيومين أغلقت مدرسة القلبين الأقدسين أبوابها بوجه الطلاب. نحن في دوامة رهيبة تهدد التلامذة وأهلهم. أما المدارس فتتجه نحو أكثر نحو الفاشية ومنطق الربح المادي. أطفالنا لا ينزلون الشارع اليوم بسبب الامتحانات وضغط دراسي يتهددهم ويتهدد اقتصاد عائلاتهم. بشكل أساسي يأتي الضغط على ديمومة الثورة من خلال المؤسسات التعليمية، فقط لكون هذه المؤسسات مطبِّعة مع النظام في البلد وغير معنية بتغييره. في هذه الأثناء نلهث أنا وابنتي لمواكبة برنامجها التعليمي العالمي الذي لا يعمل على زمن لبنان الثوري. عليها أعباء لا أريدها لها. كان من الأفضل لها وللبلد إن كانت تتبع نظام تعليمي محلي يواكب تطورات البلد، ولكن من منا سيبنيه وكيف للثورة أن تجعله من سلم الأولويات؟


عن المؤلفة

الدكتورة رنا عيسى هي أستاذة مساعدة في دراسات الترجمة في قسم اللغة الإنجليزية وهي تابعة لقسم اللغة العربية ولغات الشرق الأدنى ، وهي عضو في CELERT منذ ربيع 2017.

Leave a Reply