Site icon The Asfari Institute for Civil Society and Citizenship

لبنان: الحريات بين كرّ السلطة وفرّ الانتفاضة

ديانا مقلد​

يمكن الجزم بأن الانتفاضة الشعبية التي اندلعت في لبنان في 17 تشرين الأول/اكتوبر الماضي، نجحت في إنعاش الأمل رغم كل الصعوبات التي يعيشها البلد. والأمل هنا ليس بالمعنى السياسي المطلبي فقط، ولكن أيضاً من خلال انتزاع المتظاهرين والمتظاهرات لمساحات تعبير وشعارات متنوعة، ولغة فيها سقف حرية فردية عال لم يسبق أن ارتفع على هذا النحو من الوضوح.

فرغم كل التضييق الذي يمارس على اللبنانيين في السياسة والاقتصاد والحريات العامة، كانت الانتفاضة فرصة لهم لينتزعوا مساحات في الفضاء العام، وهذا ما ظهر من خلال مروحة واسعة من المطالب، خصوصاً تلك المتعلقة بالحريات الفردية والجنسية والسياسية. برز ذلك أيضاً من خلال ميل اللبنانيين الى السخرية والرقص والشتم والتفنن في الهتافات التي تحولت الى أغنيات وشعارات ملأت جدران المدن ورددها لبنانيون ولبنانيات.

وانتشار الشتائم في هتافات المحتجين فتح جدلاً مهماً، حول اسقاط قدسية رموز وقيادات تماماً كما فتح جدلاً موازياً حول موقع المرأة من تلك الشتائم، وحقوق مجتمع الميم. سمعنا هتافات “عضوي ليس شتيمة” و”لوطي مش مسبة”، كردّ على العقلية الذكورية المسيطرة.

وكأن الشارع اللبناني انتفض على كل شيئ من خلال طرح قضايا جندرية وقضايا حريات مناهضة للخطاب الشعبوي، ورافضة للتمييز القانوني والاجتماعي السائد، ففي الساحات شجب المحتجون التمييز الجنسي والنظام البطريركي الظالم للنساء، وأعلنوا رفضهم لرهاب المثلية، ودعوا لرفع سقف الحريات الفنية والاجتماعية.

لبنان والحريات والمثلية الجنسية

رغم أنه يُنظر إليه على أنه بلد ليبرالي اجتماعيًا بشكل نسبي، إلا أن لبنان ما زال يميز بشكل كبير ضد النساء خصوصاً في قوانين الأحوال الشخصية. وغم حرياته النسبية لكن قوانين القدح والذم وسطوة الطوائف تتحكم بالكثير من العروض الفنية والسينمائية والانتاج الأدبي بذرائع دينية أحياناً وسياسية في أحيان أخرى. ولبنان، يجرّم المثلية الجنسي وفقًا لقانون يعود إلى الأيام الأخيرة من الانتداب الفرنسي، والمؤسسات الدينية التي ترفض العلاقات الجنسية المثلية تتمتع بقوة هائلة. من هنا بدت الهتافات المنادية بحقوق المثليين تحولاً مفاجئاً وقوياً، تماماً كما بدا الظهور القوي للنساء اللبنانيات مشاركة واحتجاجاً، فقد قامت الجماعات النسوية والنشطاء الشباب بتنظيم فعاليات عامة تدعو إلى وضع حد للتمييز، وكانوا في الخطوط الأمامية للاحتجاجات، ووقفوا بين قوات الأمن والمتظاهرين الذكور في محاولة للحفاظ على السلم.

أظهرت استطلاعات سابقة أن المجتمع اللبناني بشكل عام موقفه سلبي تجاه المثلية الجنسية، حيث أظهر استطلاع أجرته مؤسسة بيو للأبحاث عام 2013 أن 80٪ من السكان يرفضونه. لكن المدافعين عن المثليين يطالبون بأن تكون دعوات التغيير السياسي وموجة الاحتجاجات المناهضة للحكومة، فرصة لإعادة النظر في المشاعر المعادية للمثليين في المجتمع اللبناني.

تلك الحيوية المطلبية، كانت قد سبقت الانتفاضة اللبنانية لكنها وجدت زخماً هائلاً في ساحات الاحتجاج.

خطاب السلطة

في مقابل ارتفاع نبرة الاحتجاج، ركز الخطاب الموالي للسلطة على استنهاض رهاب المثلية وإثارة المخاوف بشأن تنوع المحتجين وانفتاحهم، والنيل من نساء مشاركات ومحاولة وسم المطالب العالية السقف بأنها وليدة اجندة خارجية تسللت عبر منظمات غير حكومية تسعى لتقويض قيم المجتمع اللبناني.

“معتبرين اذا نجحت هيدي الثورة وأقرت قانون بعيد عن الطائفية رح يطبقوا      القوانين المتعلقة بمثليتهم الجنسية… شياطينكم ومشاريع ليلى تبعكم ما رح تمرق”… لم يصدر هذا التهديد عن رجل دين او مرجعية سياسية تقليدية، بل قاله مخرج برامج ساخرة لبناني معروف هو شربل خليل في سياق القائه خطاباً داعماً لرئيس الجمهورية ميشال عون ضد الانتفاضة الشعبية. ومضمون كلام خليل ليس بعيداً عن أدبياته، فقد تكرر هجومه في أكثر من مناسبة باتجاه فنانين وفنانات على نحو ينطوي على الكثير من الهوموفوبيا والاسفاف. كان خليل ضمن مجموعة من السياسيين والشخصيات العامة وحتى الفنانين الذين رموا سهام الادانة والتشهير والتحريض ضد المثليين جنسياً، وضد اللاجئين وضد نساء وضد مغنين وفنانين ومجموعات مدنية كان لها دور فاعل في الانتفاضة اللبنانية. وهنا في تصريحه الذي قاله في خطبته الشهيرة أمام عشرات المتظاهرين الموالين لرئيس الجمهورية تعامل خليل مع المثلية الجنسية بصفتها تهمة وإدانة. وفي الحقيقة فقد برزت مقاربة مماثلة بل وأكثر حدة في مساحة واسعة من الإعلام الموالي للسلطة باختلاف ألوانها، فقد تكرر اتهام المتظاهرين بأنهم “مثليون” وبأنهم يتناولون المخدرات و”ملحدون”، بل إن واحدة من الاعلاميات المعروفات المواليات لرئيس الجمهورية ايضاً سخرت علناً من أخلاقيات المتظاهرات والمتظاهرين وقالت عبر برنامج تلفزيوني خلينا نشوف كام حالة حبل رح يصير.

عندما تستخدم شخصيات عامة عبارات المثلية الجنسية لتخويف الناس وإثارة الفزع ، فإنها تسلط الضوء على سوء فهمهم وانفصالهم عن الحقائق.

حصل ذلك قبل الانتفاضة عندما جرى منع حفل فرقة “مشروع ليلى” في مدينة جبيل واتهامهم بتحقير الشعائر الدينية والتعرض للمقدسات المسيحية. تلا الاتهامات عاصفة من الاهانات والشتائم والتهديد بالعنف، وبدلاً من التمسك بحق الفرقة في الغناء وحرية التعبير قبلت النيابة العامة شكوى المدعين والغت العرض.

من هنا، بدت شعارات المحتجين في الانتفاضة اللبنانية بمثابة ردّ على ما حصل ايضاً مع فرقة “مشروع ليلى” بصفته انتهاك يهدف الى تقويض حرية التعبير بمجملها. صحيح أن رهاب المثلية لن يختفي من المجتمع إذا سقطت الطبقة الحاكمة، لكن الدولة العلمانية ستكون بداية لعملية طويلة الأجل لتشجيع القبول والحماية المتساوية بموجب القانون، وهذا ما كان جلياً في لغة المحتجين وفي دوائر النقاش الجريئة التي ملأت ساحات التظاهر.

…حرية التعبير

على الرغم من أن سمعة لبنان هي أنه بلد يحوي مساحة واسعة نسبياً لحرية التعبير، لا يزال المتظاهرون الذين يسعون لإزاحة الطبقة السياسية الحاكمة يواجهون تحديات ليست سهلة، إذ يجري استخدام قوانين التشهير من قبل “شخصيات سياسية ودينية قوية” من أجل إسكات المنتقدين.

فمثلاً، حقق مكتب الجرائم الإلكترونية في لبنان بما مجموعه 3599 حالة تشهير بين كانون الثاني 2015 وأيار 2019، وهو ما يمثل زيادة مذهلة بنسبة 325% في حالات التشهير بسبب الخطاب عبر الإنترنت خلال تلك الفترة. كما يجري دائماً استسهال استهداف من لديهم انتقاد سياسي عالي اللهجة بتهم العمالة والتبعية، وأيضاً من خلال قوانين القدح والذم الفضفاضة في لبنان.

زمن ما قبل انتفاضة 17 تشرين الأول مختلف عما بعدها. ليس هناك أوهام بأن الطريق الى انتزاع حقوق عامة وفردية وسياسية هو طريق طويل وشائك، لكن ما حققته الانتفاضة، هو قدرة اللبنانيين واللبنانيات على استعادة الحق العام والحيز العام، عبر إعلاء المطالب ورفع سقف النقاش واستنباط الحلول وربما …انتزاعها بقوة الحق. والذي لا شك فيه هو أن الانتفاضة رفعت منسوب النقاش حول مفاهيم رجعية، كانت السلطة قد أرستها، وهي تتعلق بحقوق أقليات جندرية وجنسية، لكن أيضاً هذه الانتفاضة وضعت خطاب النظام كلغة وكقاموس في موضع السخرية، وهذا ما يؤشر الى رغبة بالاطاحة بلغة السلطة وبزمنها.


عن المؤلفة

ديانا مقلد، شريك مؤسّس وسكرتير تحرير “درج”. تعتبر ديانا واحدة من الأصوات المدافعة عن حقوق النساء وعن الحريات ولها خبرة طويلة في مجال الصحافة التقليدية والإلكترونية. كانت من أبرز مراسلات الحرب في العالم العربي وقد شملت تغطياتها منذ العام 1999 حروباً ونزاعات مثل العراق وأفغانستان واليمن والشيشان والجزائر وإيران ومناطق عديدة في سياق تغطية النزاعات من خلال برنامجها الوثائقي “بالعين المجردة” الذي عرضته قناة “المستقبل”. تشمل خبراتها العمل الوثائقي وإنجاز الأخبار والتحقيقات والتدريب الإعلامي. الجهات المانحة يؤمن “درج” بضرورة الاستقلال المادي كشرط من شروط الاستقلال التحريري، ومن هنا قراره بأن يكون شركة تجارية محدودة المسؤولية وتبتغي الربح في مرحلة لاحقة. وفي انتظار ذلك، يلجأ “درج” إلى تمويل دولي يحرص على مكاشفة مستخدميه بهويّة أصحابه. في الوقت الراهن، تدعم “درج” الجهات المانحة أدناه.

Exit mobile version